مبادرة كيسنجر للحلّ في أوكرانيا
ناصر قنديل
– هنري كيسنجر رغم بلوغه عتبة المئة سنة من العمر لا يزال من أبرز العقول الأميركية الاستراتيجية المبرمجة على معيار الدولة العميقة والمصالح الأميركية العليا بعيداً عن لعبة الأحزاب والرئاسات والانتخابات، ولذلك لا يمكن التعامل مع أطروحته حول الوضع في أوكرانيا وكأنها مجرد تفكير أحد المحللين الهواة الراغبين في الاستعراض، كما قيل عن مبادرة مالك شبكة تويتر الجديد إيلون ماسك، والتي تتلاقى في الجوهر مع مبادرة كيسنجر.
– تأتي مبادرة كيسنجر لتلاقي مناخ القلق الذي تعبّر عنه تصريحات كل المسؤولين الأميركيين من استمرار الوضع في أوكرانيا دون حل سياسي. فكلام المبعوثة الأميركية في الأمم المتحدة عن استعداد الرئيس الأميركي جو بايدن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للبحث عن تسوية في أوكرانيا يناقض كلام الرئيس بايدن نفسه قبل أسابيع عن كونه غير مستعدّ للحديث مع بوتين ما لم يكن بوتين جاهزاً للانسحاب من أوكرانيا. وهو ما ردت عليه موسكو بأنه انفصام عن الواقع، الذي أرادت إلينا توماس غرينفيلد ملاقاته وتصويب مضمون كلام رئيسها، وكلام الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، عن خطورة الاستخفاف بروسيا بعد شهور من التصريحات التي أطلقها وكانت ترتكز الى تعميم ثقافة الاستخفاف بروسيا، والترويج لعجزها العسكري وضعفها والتبشير بقرب هزيمتها، ينطلق من إدراك موازٍ لخطورة بقاء الأمور على ما هي عليه، بعدما استنفدت الإمدادات العسكرية لأوكرانيا قدرتها في صناعة تغيير ميداني، ودخلت المعادلة العسكرية ثباتاً جغرافياً في الميدان يواكبه تفوّق ناري روسي يدمّر منهجياً بنية منظومة الطاقة الأوكرانية ويهدّد بحملة هجرة ونزوح بالملايين بين الأوكرانيين نحو أوروبا، التي دخلت مرحلة النزيف الاقتصادي والمالي الخطير، وما يرافق كل ذلك من خشية من أن تكون موسكو تستعدّ لبدء هجوم بريّ بالتعاون مع روسيا البيضاء وعبر حدودها نحو مناطق الشمال والغرب في أوكرانيا، أو منفردة عبر جبهات الشرق والجنوب، في ظل تراجع القدرات الدفاعية البشرية لأوكرانيا تحت تأثير عشرة شهور من الحرب استنزفت الكثير من مقدراتها.
– مبادرة كيسنجر التي ترتكز إلى معادلة استحالة إلحاق الهزيمة بروسيا، التي بنى عليها مبادرته السابقة عام 2000 لإطلاق حوار روسي أميركي بالتزامن مع وصول الرئيس بوتين الى الحكم، كان لها الفضل في افتتاح مرحلة من التفاهمات الروسية الأميركية التي منعت المواجهات، تقوم أيضاً مثل مبادرة عام 2000 على قناعته بأن المضي قدماً في اختبارات القوة مع روسيا بوهم صناعة الانتصار عليها سيحمل إحدى نتيجتين إما حرب استنزاف تتفكك خلالها الكثير من الدول الغربية بالتزامن مع كل ضعف تلحقه بروسيا، أو الاقتراب أكثر فأكثر من لحظة اندلاع حرب عالمية ثالثة تتقابل فيها روسيا مباشرة مع حلف الناتو، ولا تلبث هذه الحرب أن تنذر بخطر صدام نووي، وكيسنجر يأخذ تصريحات وتحذيرات الرئيس الروسي التي تسير بهذا الاتجاه على محمل الجدّ، ويعتقد أنه من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن أي دولة نووية يمكن أن تتفرج على لحظة سقوطها في حرب عسكرية، وهي تملك ترسانة نووية لا تستعملها، وأنه من السخافة الترويج لنظرية العجز الروسي العسكري من جهة، وقرب الإفلاس الروسي الاقتصادي من جهة موازية، ليصل الى معادلة يعتبرها حتمية عنوانها، لا بدّ من التحدث إلى الرئيس بوتين حول طاولة المفاوضات.
– أولوية الخيار التفاوضي مع روسيا تعني وفقاً لمبادرته التسليم بأن شيئا قد تغير مع الحرب، وأنه لا يمكن التفاوض وكأن لا شيء قد تغيّر، وهو لذلك يقول بأن التسليم بتغيير الجغرافيا الأوكرانية هو نقطة البداية التفاوضية، وتحديد حجم هذا التغيير هو مضمون التفاوض، وهو لذلك يقترح وقف النار عند حدود خطوط الاشتباك التي ظهرت عام 2014، وهي خطوط مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، والسيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم، والبحث في تنظيم استفتاءات بإشراف أممي في المقاطعات التي أعلن عن ضمّها الى روسيا.
– بقيت مبادرة كيسنجر دون تعليق من أي مسؤول أميركي، رغم أنها لاقت تنديداً من الرئيس الأوكراني ومعاونيه، ولاقت استعداداً للدراسة من الجانب الروسي.