رواية الخزنة عن الحب والحرية لعصمت منصور والأوتوبيس رقم 12
} حمزة البشتاوي*
كلما خرجت من مخيم برج البراجنة الذي بات يشبه غابة من الإسمنت المكتظة بالرطوبة وأوجاع الغربة القسرية والحنين، يقلّ الليل الذي تصعب مقارنته بليل الخزنة (وحش أسود لا نهائي عميق وثقيل). وفي رحلة بحث خارج المخيم عن ما تبقى من أغنيات القمر وشمس نهار جديد، خرجت من المخيم حاملاً معي رواية الخزنة عن الحب والحرية لعصمت منصور واستقليت الأوتوبيس رقم 12 الذي ينطلق من الشارع المحاذي للمخيم باتجاه مدينة بيروت وصولاً إلى شارع الحمرا المشهور بالمقاهي الثقافية والمطاعم والمحلات التجارية والمكتبات، وبسبب زحمة السير الخانقة وحركة الأوتوبيس البطيئة، عدت لقراءة الرواية ودخلت في عالمها المميّز بنقل مسألة الزمان والمكان الأكثر قسوة في الحياة وهو السجن إلى زمن الخيال الرحب وفضاءات الحلم وقد مسّني شيء منها لدرجة لم أعد أشعر فيها بالزمان والمكان ولا بالمحطات التي يتوقف عندها الأوتوبيس رقم 12 قبل الوصول إلى شارع الحمرا.
وقد تعرّفت في بداية الرواية على تفاصيل صغيرة في السجن صنعت أحداثاً كبرى كما حصل في عملية نفق جلبوع وكيف يمكن للأسرى أن يفتحوا طاقة حرية ويخرجوا من السجن، وتعرّفت أيضاً على تفاصيل تجارب عمليات الإضراب عن الطعام وكيف يتمّ الاستعداد لها وما يرتكب بحق الأسرى من تعذيب جسدي ونفسي، وهذه التفاصيل لا تعني بأنّ الرواية تتعلق فقط بيوميات أسير بل إنها سعت بأسلوب مبدع لتسليط الضوء على كيفية مقاومة الأسرى للروتين اليومي للسجن بمخيلة ساحرة.
وترتبط الرواية بالواقع السياسي الفلسطيني من وجهة نظر ما بات يُعرف بأدب السجون الذي تشكل رواية الخزنة إضافة نوعية له مع تأثرها بشكل كبير بالسيرة الشخصية والأحداث التي يعيشها الأسرى أكثر من تأثرها بالثقافات الأجنبية، وفي هذا الأدب استطاع الأسير الفلسطيني عبر الكتابة أن يخلق تواصلاً مع الحياة والناس والطبيعة لمواجهة تداعيات مرحلة الأسر ومن ثم مرحلة التحرّر والخروج من خلف الجدران والقضبان والأصفاد وأطنان الفولاذ والإسمنت إلى واقع شائك ومرتبك والذي لم تلحظه كثيراً الروايات الإبداعية التي كتبها أسرى فلسطينيون بنكهة خاصة تدوّن الأفكار واللحظات التأمّلية التي يعيشها الأسير، ولكن رواية الخزنة تحدثت عن تلك المرحلة بأسلوب ممتع ورشيق بلغ ذروته حين حصول أو وقوع الأسير بحب عذري من النظرة الأولى ليتحوّل السجن بهذا الحب من مكان للألم والشقاء إلى مكان آخر تنبت فيه حقول وبيارات وأغنيات عن الحب الذي تحل به كلّ مشاكل الكرة الأرضية، وهو الذي يجعل السجن و (إسرائيل) خارج البحث.
وإذا كان (السجن يقتل فينا ألف روح ولكنه ينمّي فينا ألف روح) وبروح حالمة تأخذنا الرواية إلى تفاصيل يوميات الأسرى وعلاقتهم ببعضهم وكيف يتعاملون مع السجن والسجان، مع تركيز ممتع على قصة حب أشرقت مع محامية من مدينة الناصرة اسمها سهام زارت بطل الرواية في السجن بسبب عملها في منظمة حقوقية تعنى بشؤون الأسرى وبهذا الحب يعيش الأسير وكأنه خارج قضبان وجدران السجن ويسكن برومانسية عالية في الحلم المعاكس للواقع ويصبح الحب شغله الشاغل وهدفه الأسمى وبه يصنع صور جميلة وأقواس قزح ويحلق خارج عتمة السجن نحو الحرية التي يحصل عليها لاحقاً بعد عملية تبادل للأسرى ويعود بعد غياب قسري للتأقلم تدريجياً مع الواقع الجديد.
وبواقعية مفرطة يتنازل عن الحب والحلم الذي تمثله سهام، ويرتبط بعلاقة على تماس مباشر مع الواقع ومستجداته، حيث يتعرّف على دارين ويرتبط معها بقصة حب واقعية وصلت سريعاً إلى مرحلة تبادل القبلات والأدوار والمصير.
وفجأة اقترب الأوتوبيس رقم 12 من نقطة توقفه الأخيرة فسارعت إلى قراءة السطر الأخير من الرواية الذي يقول: (الحب دوماً ينتصر لأنه لا ينتهي دوماً نهايات سعيدة بل لمجرد حدوثه) ثم خرجت من الأوتوبيس ومن الرواية ورحت أمشي بشارع الحمرا أتطلع بالوجوه بحثاً عن سهام ودارين وسامر وغيرهم حتى أني ذهبت إلى مكتبة بيسان ومكتبة أنطوان أبحث في الرفوف عن رواية أو ديوان شعر خرجوا من السجن ولم يتعرّضوا للمصادرة كي أحظى بنص جميل كرواية الخزنة عن الحب والحرية رغم عدم إعطائها للنهايات المفتوحة حقها الكامل في عالم الواقع والخيال.
*كاتب وإعلامي