التاريخ لا تصنعه اللحظة بل يصنعه المسار…
} د. عدنان نجيب الدين
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل: «لا شيء عظيم في العالم يتمّ إنجازه من دون شغف».
فهل اللبنانيون شغوفون بوطنهم؟
لا شك أنً اللبنانيين شغوفون بوطنهم الذي افتدوه ويفتدونه بأرواحهم على مرّ التاريخ. والسؤال يأتي هنا: لماذا، إذا، أوصلوا بلدهم إلى هذا الواقع المزري الذي يدعو ليس فقط الى الاستهجان والاستنكار بل وإلى الخجل؟
كنا وما زلنا نحمّل السياسيين المسؤولية عن الأوضاع التي آلت إليها الممارسات الخاطئة خلال الفترة الأخيرة التي كانت ثمرة مرة لكلّ المسار السابق الذي سلكه اللبنانيون على مدى قرن من الزمان، ايّ منذ تأسيس هذا الكيان نتيجة التسوية بين الإنكليز والفرنسيين بعد الحرب العالمية الأولى والتي قسمت المنطقة وأنشأت فيها كيانات، ونتيجة توق اللبنانيين الى الحرية وارتضاء سكان بلاد الأرز العيش معاً في إطار سياسي واحد هو دولة لبنان الكبير أو الجمهورية اللبنانية.
وضع الفرنسيون لنا دستوراً مستنسخاً عن دستور بلادهم، وأقاموا مؤسسات سياسية وإدارية، ومنحوا امتيازات للطوائف وفاضلوا في ما بينها على أن تكون هذه الامتيازات مؤقتة. وكان على اللبنانيين إعادة النظر في دستورهم لكي يصبح أكثر انسجاماً مع الواقع المتجدّد ومع العدالة، ومع التغيّرات التي تفرضها تطورات الأوضاع على الصعد الديموغرافية والاجتماعية والتربوية والاقتصادية. واستطاع اللبنانيون ان يعدلوا في العام 1943 بعض البنود في دستورهم أهمّها كان جعل اللغة العربية لغة رسمية للبلاد وأنّ لبنان دولة مستقلة وذات سيادة، وأقام ذوو النفوذ تفاهمات في ما بينهم بحيث يراعى التوزيع الطائفي في المناصب السياسية والوظائف والإدارات. إلى أن جاء اتفاق الطائف الذي اعتبر نقلة نوعية في مسار التطور السياسي للبنان، لكن هذا الاتفاق لم يطبق بشكل كامل، وما طبق منه هو تأكيد هوية لبنان العربية وأن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، وكذلك انتزاع صلاحيات رئيس الجمهورية وإعطائها لمجلس الوزراء الذي تتمثل فيه كافة الطوائف على قاعدة أن لا شرعية لسلطة تناقض العيش المشترك. اما البنود الأساسية التي لم يطبّقها المسؤولون سواء كانوا أعضاء في المجالس النيابية المتعاقبة أم في الحكومات. فهي إلغاء الطائفية السياسية وسنّ قانون انتخابات خارج القيد الطائفي واللامركزية الإدارية والإنماء المتوازن والمناصفة في وظائف الفئة الأولى بين المسلمين والمسيحيين لكنها انسحبت خلافاً للدستور على سائر الوظائف. وكلّ هذه البنود جرى تجاوزها والقفز عنها. ولو طبقت هذه البنود لكنا في مكان آخر وفي ظروف أفضل من هذه الظروف، ولكانت العدالة والتنمية قد تحققتا إلى حدّ كبير، ولكان التنافر الطائفي أقلّ حدة بين المكونات اللبنانية.
فلماذا لم يحصل كلّ ذلك؟
هنا نعود إلى مقولة هيغل أن لا شيء عظيم يتحقق من دون شغف. فبماذا يا ترى كان شغف اللبنانيين؟
من الواضح أنّ شغف اللبنانيين كان بوطنهم أولاً، لكن شغفهم بانتماءاتهم الطائفية وبزعمائهم كان أكبر. أما شغف الزعماء فلم يكن إلا بمصالحهم الشخصية، وكانت مصالحهم هذه مرتبطة بمصالح الدول التي يوالونها ويرتهنون لها.
وإذا كان التاريخ لا تصنعه اللحظة بل يصنعه المسار، فهل أدّى المسار السياسي للبنانيين إلى إنجازات عظيمة لهم ولبلدهم؟ ايّ هل استطاعوا بناء دولة حقيقية بما للكلمة من معنى؟ الواقع يقول عكس ذلك. لأنّ السياسيين يعملون وفق نظرة آنية، ايّ وفق اللحظة التي يستطيعون فيها قطف ثمار ممارستهم للسلطة بتحصيل أكبر قدر من المكاسب الشخصية لهم على حساب المسار الوطني العام الذي يؤمّن ديمومة الوطن وسعادة شعبه.
وسياسة اللحظة هذه هي أهمّ الأسباب التي جعلتهم يفشلون في بناء دولة تؤمّن للبنانيين عدالة في الحقوق، وتنمية في المناطق، ورفاهية للشعب، وقبل هذا وبعد، تؤمّن حماية الوطن وأبنائه من الاعتداءات على أرضهم وسيادتهم، فوقعوا تحت احتلالين: الاحتلال الصهيوني أولاً، واحتلال إرادة اللبنانيين ثانيا من خلال ارتهان المسؤولين، أو جلهم، لإرادات الدول ذات النفوذ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تفرض سطوتها وإرادتها على الحكام اللبنانيين وعدد كبير من الدول التي غزتها عسكرياً أو عملت على تخريبها من الداخل بإثارة الفتن الطائفية والاتنية فيها.
ولكي نكون منصفين، نقول إنّ اللبنانيين استطاعوا تحقيق شيء عظيم وإنجاز كبير في عام 2000 وفي العام 2006.
وهنا، نتوقف عند مقولة «المسار» في صناعة التاريخ، لنقول إنّ اللبنانيين عندما امتلكوا زمام أمرهم، وسلكوا مسار المقاومة في وجه العدو «الإسرائيلي»، ولم يستكينوا لضعف الدولة وعجزها عن تحرير الأرض المحتلة وإعادة بسط سيادتها عليها واسترجاع كرامة شعبها، حققوا شيئاً عظيماً لأول مرة في تاريخ لبنان والمنطقة، فكان التحرير عام 2000 الذي أذاق العدو مرارة الهزيمة لأول مرة منذ إنشاء كيانه على أرض فلسطين السليبة، لأنّ شغف الإنسان اللبناني بوطنه المقرون بالإخلاص وبقوة الإرادة هو الدافع الذي كان وراء هذا الإنجاز الرائع. وكان الإنجاز الآخر هو صدّ العدوان «الإسرائيلي» عام 2006، فكانت صدمة كبيرة للعدو لأنه فهم أخيراً أنّ جيشه المسلح حتى الأسنان بأحدث أنواع الأسلحة عاجز عن إخضاع لبنان وسحق مقاومته كما كان بحلم ويخطط، وهكذا، فإنّ حرب عام 2006 قد غيّرت كثيراً من المعادلات وأنهت مشروع الشرق الأوسط الجديد، وأدخلت مفهوماً جديداً في الحروب أخذاً بالاعتبار عجز الجيوش الكلاسيكية عن هزيمة المقاومات الشعبية في ايّ بلد، فعمدت الولايات المتحدة الى تغيير خططها السابقة واستبدلتها باستراتيجية الحصار والعقوبات على البلدان التي ترفض الانصياع لها وتسليم مقدراتها لهيمنتها، وهذه الاستراتيجية ستلاقي أيضاً الفشل عينه لأنّ إرادة الشعوب تبقى هي الأقوى، وإنْ كان مسار النضال طويلاً لكنه يبلغ الهدف في النهاية. وهذا ما تنبئنا به المقاومة الفلسطينية الباسلة، فاتفاق اللحظة في أوسلو لم يحرّر فلسطين، بل مسار المقاومة الذي سلكه شعبها الشغوف بارضه ومقدساته هو الذي يصنع التاريخ المشرف لهذا الشعب العظيم ويجلب الانتصار له، كما سيحقق زوال الكيان الصهيوني عن الأرض المقدسة.
ونتابع لنقول إنه الرغم من هذا الانتصار الذي حقفه اللبنانيون على العدو «الإسرائيلي»، فشلوا في الداخل، وبقي عليهم مسؤولية إنجاز هدف لا يقلّ أهمية عن الإنجاز الذي ذكرنا، وهو بناء الدولة القوية العادلة التي تؤمّن المساواة بين مواطنيها وتلغي الامتيازات الطائفية والمذهبية والكارتيلات والوراثة السياسية وتؤسّس دولة ديموقراطية حقيقية تكون في خدمة مواطنيها، فلا زعامات تعيش أمجادها على حساب شعبها وتغتني من ثروات الوطن ومن تضحيات مواطنيه ومن جهود وتعب وعرق شعبه الذي يستحق حياة كريمة وآمنة. وهذا الأمر لن يتحقق إلا بالوعي والإيمان بقدرة الإنسان اللبناني الذي بهر العالم ليس فقط بقدراته وكفاءاته العلمية والفكرية، بل أيضاً في ميدان المقاومة لتحرير بلده من الاحتلال الصهيوني، هذه المقاومة التي قامت على العلم والتخطيط، فكان ذلك الإنجاز انتصاراً للعقل اللبناني وإبداعه على العقل الصهيوني. لذلك يعوّل على قدرة اللبنانيين أيضاً في بناء دولة جديدة تحفظ لهم كيانهم، وترتقي بهم الى مصاف الشعوب السعيدة، وذلك لن يكون إلا عندما يتحرر الشعب من قيود الزعامات الطائفية وعقلية التعصب الديني البغيض والمدمّر، فينظر كلّ مواطن إلى نفسه على أنه مواطن في دولة وليس جزءاً من قطيع. وعندما يصل اللبنانيون إلى هذه القناعة، لن يعود اللبناني ينظر إلى أخيه اللبناني من منطلق الاختلاف معه في المذهب أو الدين، بل من منطلق المواطنية التي تحتم أن يتساوى معه في الحقوق والواجبات كما يتساوى معه في الحرمان والمعاناة، وكذلك في النظر إلى المستقبل نظرة وطنية متفائلة تعني العيش الواحد في وطن واحد وفي ظلّ دولة واحدة قوية بقدراتها الذاتية، دولة يحكمها دستور واحد وقوانين واحدة يسهر على تطبيقها قضاء نزيه يؤمّن حقوق المواطنين من الدولة وحقوق الدولة من المواطنين. وعلى اللبنانيين أن يعوا ضرورة العمل معا للتخلص من الفساد والفاسدين، فيمدّوا أيديهم بعضهم لبعض لبناء دولة الحرية والكرامة والعدالة، ايّ دولة الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله وجعله خليفة له على الأرض. ونحن لدينا بلد هو أجمل البلدان، بلد وصف بأنه جنة الله على الأرض اسمه لبنان. فماذا أنتم فاعلون أيها اللبنانيون لبناء دولتكم بناء ديموقراطياً سليماً تحفاظون عليها لكي يشعر كلّ مواطن بأنه قادر على الاستثمار في بلده والوصول الى ايّ وظيف او منصب من دون الاستزلام لزعيم، مواطن ليس خائفاً على مستقبله ومستقبل أولاده، ومطمئناً غير قلق من تربص العدو به، مواطن سعيد في وطنه ويستحق الحياة الكريمة على أرضه؟