المياه المالحة أو انقلاب المعايير…
} د. علي أكرم زعيتر*
في ما مضى كان المعيار الأول عند العربي والمشرقي والمسلم عموماً هو الشرف. أما اليوم فلم يعد للشرف تلك الحظوة، فما عدا مما بدا؟
العادات والتقاليد والسلوكيات الاجتماعية تتغيّر، ويطرأ عليها التبدّل مع مرور الزمن، شأنها شأن أيّ شيء آخر في الحياة. فالموجودات خاضعة لسنة التغيير والتبديل والانتقال من طور إلى طور، وقلّما تجد شيئاً بقي على حاله منذ أعوام. راقب نفسك أما زلت أنت أنت، ذلك الطفل الصغير الذي كانت تعتريه الغبطة كلّما قدم إليه أحدهم قطعة حلوى؟! بالطبع لا، لم تعد تعني لك الحلوى الشيء الكثير. هكذا بالضبط هو حال كلّ شيء في الوجود، بما في ذلك المجتمعات. فما من مجتمع بقي على حاله منذ عهود.
كانت المجتمعات العربية والمسلمة قديماً تهتمّ لجملة من المعايير، وتقيم لها وزناً فائق التصور، منها:
1 ـ الشرف، ولا نعني بالشرف عفة المرأة فحسب، وإنما الشرف بكلّ أبعاده، بما في ذلك الرفعة والسمو والنبل والأخلاق الحميدة.
2 ـ الحسب والنسب (الأصل، العشيرة، القبيلة، أبوان كريمان أو وضيعان، ابن زنا، لقيط إلخ…)
3 ـ البذل والإيثار والتضحية وتغليب ثقافة الفرد من أجل الجميع، مقابل ثقافة الجميع من أجل الفرد الشائعة في الغرب.
4 ـ الثقة بالله، وحسن الظنّ بالآخرين، والتعاون والتكاتف بين أفراد الأسرة، وأفراد المجتمع.
5 ـ الغيرة والحمية، والذوْد عن العرض والأرض والحمى والأهل والأقارب.
6 ـ مدّ يد المساعدة لعابر السبيل، وإغاثة الملهوف، والدفاع عن المظلوم.
معايير وقيَم كثيرة، كان العرب والمسلمون والمشرقيون عموماً يقيمون لها وزناً، ولكنها مؤخراً ما عادت تحظى بكلّ هذه الأهمية، فماذا حصل؟
صحيح أن التغيُّر والتبدّل والتطوّر يسري على كلّ الموجودات، ولكن ليس بوتيرة واحدة. فالخشب لكي يتحوّل إلى فحم، فجمر، فرماد، يحتاج إلى سويعات قليلة وربما إلى دقائق. بينما يحتاج الحديد لكي يصدأ وتكسوه تلك الطبقة الحمراء إلى أيام، فيما قد تستغرق فترة نضوج الثمار على الأشجار شهوراً، وهكذا فإنه لكلّ موجود من الموجودات سواء كان من الأحياء أو من الجماد، وقت معيّن يستغرقه كي يتبدّل أو يتحوّل أو يتطوّر. وقد تطول المدة أو تقصر، كلٌّ بحسب طبيعته وتركيبته ونوعه.
تعدّ المجتمـعات من بـين الأشياء أو الموجودات التي تحتاج إلى وقت طويل حتى تتـغيّر. لا يحدث التغيير فيها بين ليلة وضحاها. محال ذلك. أرأيت مجـتمعاً، لا يجـيد أفراده التحـدث إلا بالعـربية ثم استفاقوا في اليوم التالي فوجدوا أنفسـهم يتحدثون الفرنسـية بطــلاقة! بالطبع لا، الأمور ليست بهذه البساطة. قد يسـتغرق ذلك أعـواماً وربما قروناً.
الأمـر ذاتـه بالنسـبة للعـادات والتقـاليد. فالـشعوب لا تتخـلى عـن عاداتها وتقالـيدها ومعاييـرها وقيـَمـها الاجتماعيـة فجأة. لا بـدّ مـن مـرور زمــن طـويـل، ولا بـدّ مـن تعاقـب الأجـيال، حـتى يتسنّى للمجتـمع التخـلي عــن أفكــاره القديمــة واســتبدالها بأفكــار ومعايـير جديـدة.
آخر ما كان يعني العربي والمسلم أن يعيش حياةً رغيدة، أو يؤمّن لنفسه مسكناً فارهاً. ما من أحد، إلا ويطمح لتحسين أحواله المادية، ولا غرو من أنّ العربي والمسلم كان طامحاً لذلك، ولكن في سلم أولوياته كان هناك أشياء أخرى كثيرة أهمّ. منها ما ذكرناه أعلاه (الشرف، الأخلاق النبيلة، الحسب والنسب إلخ…)
قديماً، كان الأوروبيون والغربيون عموماً يولون شيئاً من الأهمية لمعايير مثل الشرف، والإخلاص، والوفاء، والنبل، والإيثار والتضحية. كانت المسيحية آنذاك لمَّا تزل تبسط جناحيها على المجتمعات الأوروبية. لذا كانت مفاهيم كثيرة مثل التي أتينا على ذكرها تلقى رواجاً بين أبناء تلك المجتمعات. لكن مع اندلاع الثورة الفرنسية منتصف القرن الثامن عشر، ونجاحها في الإمساك بزمام الحكم في فرنسا ـ مع ما حملته من مفاهيم ثورية وانقلابية طالت كلّ نواحي الحياة، من سياسية ودينية واجتماعية وثقافية واقتصادية ـ لم يعد لتلك المفاهيم حاجة.
فمع الثورة الفرنسية، لم يعد الملك أو الحاكم أو الرئيس أو الإمبراطور ـ سمِّه ما شئت ـ يملك الأرض ومن عليها. لا، بات مجرد موظف ينتخبه الشعب لكي ينوب عنه، أو لكي يدير شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…
واقتصاديّاً، لم تعد الأراضي والإقطاعات ملكاً للنبلاء والسلالة الحاكمة، وإنما باتت ملك الشعب، كما أنّ الثروة لم تعد متركزة في أيدي أولئك، وإنما بات بوسع الجميع الحصول عليها.
والحال نفسه اجتماعيّاً، فالطبقات الاجتماعية العليا والدنيا، لم تعد حكراً على فئة دون الأخرى. بات بإمكان الجميع الانتقال بين الطبقات، فالامتيازات التي كانت ممنوحة لفئة معينة ألغيت.
ثقافيّاً، أحدثت الثورة الفرنسية تغييراً عارماً في منظومة القيم الفرنسية التقليدية المستوحاة والمستلهمة من روح الثقافة المسيحية. بات بمقدور الفرد أن يفكر كيفما شاء! لقد تحرّر أخيراً من قيد الأخلاق. فما هو إلا حيوان ناطق.
العفة لم تعد شيئاً مطلوباً، واللجوء إلى الأساليب الملتوية من أجل تحسين ظروف الحياة أمر مشروع، بل هو نوع من أنواع المثابرة والعصامية. لم يعد للزهد والتعفُّف والاستقامة المسيحية أهمية تذكر. فالغاية تبرّر الوسيلة. والإنسان ذئب لأخيه الإنسان. والقانون لا يحمي المغفلين (ضرب مفهوم النزاهة والاستقامة، وذلك بخلاف القانون الإلهي الذي يحمي الجاهل والمغفل ويحفظ حقَّهما)، والجميع من أجل الفرد لا الفرد من أجل الجميع كما يقتضي مبدأ الإيثار والتضحية، والتركيز على عالم المادة مقابل تجاهل عالم الروح والغيب هو الخطوة الأولى نحو النجاح والارتقاء، فلا فردوس ولا جحيم ولا ثواب ولا عقاب، ولا حياة بعد الموت ولا من يحزنون. نفسي ثم نفسي ثم نفسي. وللسلطات الحاكمة دور وحيد هو السهر على راحتي، مقابل التزامي بتسديد الضرائب.
ثم جاءت الثورة الصناعية عقب الثورة الفرنسية مباشرةً، فقطعت آخر خيوط الفضيلة، ولم يبق من شيء يذكِّر الأوروبيين بها، إلا بعضُ تمتماتٍ يردِّدها كاهنٌ طاعن في السن في كنيسة نائية، أو راهب متنسك، منعزل عن العالم في صومعته.
بهذه العقلية المتخمة بالمادة، واللاهثة خلف الأطماع الاستعمارية التوسعية، والمفتقرة إلى أدنى مقومات الفضيلة، جاء الأوروبيون الغربيون إلى بلاد العرب والمسلمين عام 1918، بعدما تمكنوا من هزيمة الإمبراطورية العثمانية، فحدث أول لقاء بيننا وبينهم، منذ الحملات الصليبية السبع، قبل سبعة قرون.
جاؤونا غالبين. ولما كان المغلوب مولعاً أبداً بتقليد الغالب، كما يؤكد مؤسّس علم الاجتماع ابن خلدون، فقد كان طبيعيّاً أن تنساق خلفهم قطعان العرب والمسلمين البائسين والمهزومين نفسيّاً وفكريّاً وروحيّاً.
لقد كان طبيعيّاً أن نقلدهم في لباسهم ومأكلهم ومشربهم وعاداتهم وتقاليدهم وطريقة حياتهم. وقد كان طبيعيّاً أيضاً أن تخلع نساؤنا الحجاب، وأن تموت الغيرة في نفوس الرجال، وأن يسخِّر أشباه المثقفين العرب والمسلمين أنفسهم للترويج للثقافة الغربية الهابطة في أوساط العامة. لقد كانت هزيمة نفسية وثقافية بكلّ المقاييس، سرعان ما أحدثت انقلاباً جذرياً في المعايير، وأطاحت بمنظومة القيَم الإسلامية والعربية.
مع خروج المستعمرين الأوروبيين نهاية النصف الأول من القرن الماضي، خلنا أنّ الأمر انقضى، وأنّ ما أفسدته يد النحَّات الغربي ستعيد ترميمه يد العطار العربي. ولكن، يا للأسف، خابت كلّ توقعاتنا ورهاناتنا، فصحيح أنّ الاستعمار خرج من الباب، ولكنه سرعان ما عاد من النافذة، عبر ما يسمّى بالنخب والمثقفين المأجورين الذين خلَّفهم بيننا، وعبر ما بات يُعرف لاحقاً بالعولمة.
بلى، لقد نجح أسلافنا في طرد المستعمرين من بلادنا، لكنهم نسوا على ما يبدو إغلاق النوافذ بإحكام. فكان نتيجة ذلك ما نراه اليوم من تفلت وسيبان أخلاقي، طال نواحي الحياة كلها.
جزء كبير ممَّا يحصل في إيران اليوم، سببه سطوة الفكر المادي الليبرالي على شريحة واسعة من أبناء الشعب الإيراني. هذا الفكر المستورَد من الغرب، ما كان ليجد سبيله إلى إيران الثورة الإسلامية لولا:
1 ـ الفورة التكنولوجية التي اجتاحت العالم، وجعلت منه قرية كونية صغيرة. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها إيران احتجاجات ضخمة بهذا الحجم، فقد سبق لها أن شهدت مثلها أو أقلّ في العام 2009، عقب الأزمة الدستورية التي أحدثها خاتمي ومير موسوي، ولكنها المرة الأولى ـ منذ انتصـار الثورة الإسلامية ـ التي تجرؤ فيها المعارضة الإيرانية المدعومة خارجــيّاً على تحدي السلطات الإيرانية بهذا الشكل، وعلى النيل من الرموز والمقدسات الإسلامية.
لقد تناقلت وكالات الأنباء أخباراً موثقة عن قيام عدد من الناشطين الإيرانيين المدفوعين بأجندات غربية وأميركية مشبوهة بإحراق المصاحف والمساجد والحسينيات، وبسبّ وشتم العزة الإلهية، وبإهانة نبي الإسلام وأئمة الإسلام. إنها المرة الأولى التي يحدث فيها شيء مماثل.
بالطبع، هذا لا يعكس تبدّلاً في المزاج العام للشعب الإيراني، فالشعب الإيراني شعب مسلم ومحافظ، ولكن مجرد ذهاب بعض أفراده هذا المذهب الخطير، ينبئ بأنّ مستقبل الإسلام السياسي، بل وحتى الإسلام العبادي، سيكون محفوفاً بالمخاطر، إنْ لم تسارع السلطات إلى معالجة الأسباب التي حدت بهؤلاء الموتورين إلى ارتكاب أفعالهم الشنيعة تلك.
لا يُخفى على أحد أنّ تكرار أعمال من هذا النوع سيسهم حتماً في توهين الشعائر الدينية وفي تشجيع مزيد من الرعاع والمأجورين على تكرار الأمر. فالمنطق يقول، إنّ التساهل مع الخارجين عن القانون والمجرمين يولد لديهم شعوراً بالنشوة، فتزداد بعدها وتيرة ارتكاباتهم المخلّة.
لا بدّ إذاً، من معالجة الأزمة بالتوازي: الضرب بيد من حديد من جهة، وإعادة تأهيل مثيري الشغب، ومزدري الإسلام ممن غُرّر بهم من جهة ثانية.
في الواقع، لقد بيّنت الأزمة الراهنة التي تعصف بإيران، أن السلطات الثقافية والدينية في البلاد، لم تكن على قدر التحديات الثقافية والفكــرية التي فرضتها وســائل التواصل الاجتماعي. هناك آلاف المواقع والصفحات الإلكترونية التي تطعن في عقائد الإسلام، وجلها ناطق بالفارسية. وموجه للداخل الإيرانــي. ماذا فعلت السلطات الدينــية هناك؟ هل أعدّت جيشــاً من العلمــاء والنخبويين القادرين على دحض شبهات الملاحــدة والمنصرين والتشــكيكيين والربوبيين؟ أم أنها اكتفت بالتفرّج والتحسّر على ما آل إليه الشباب الإيراني!
2 ـ نجاح وسائل التواصل الاجتماعي في إرباك الشباب الإيراني، وفي الأخذ بناصيته نحو الإلحاد والعدمية. يعني بالضرورة فشل المؤسسات التربوية الإيرانية التقليدية في أداء دورها على أكمل وجه. لعلها أصيبت بالترهّل، أو لعلها كانت من الأساس لا تلقي بالاً للتثقيف الديني الجاد.
من المفارقات العجيبة أنّ ساسة إيران كانوا أول من تنبَّه لمخاطر الحرب الناعمة التي يشنّها الغرب على المسلمين. لقد كانوا سبَّاقين في هذا المضمار، ومع ذلك كانوا أول من ذاق وبال أمرها. لقد وقع الفأس على الرأس، فهل تجدي الضمادات والكمادات؟
أمام الساسة في الجمهورية الإسلامية ثلاثة نماذج تاريخية، إذا استفادوا من تجاربها، يمكن الحديث عندها عن الخروج من عنق الزجاجة، وإلا فلا.
الإكليروس الكاثوليكي
الإكليروس الكاثوليكي في القرون الوسطى، والإصلاحات العثمانية نهاية القرن التاسع عشر، وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1992. إذا قرأ قادة الجمهورية الإسلامية هذه التجارب الثلاث فإمكانية كسر المشروع الغربي التخريبي وهزيمته واردة بقوة.
بالنسبة لتجربة الكنيسة الكاثوليكية، فإنّ أوجه الشبه بينها وبين التجربة الإسلامية في إيران ليست بالغة. الإكليروس المسيحيون اشتهروا بالبذخ والطمع والسعي خلف تكديس الثروات، حتى لو كان ذلك عن طريق استغلال الطبقات المعدمة. أما العلماء المسلمون في إيران، فزاهدون بمجملهم. قلَّما تجد بينهم ثريّاً. جلهم من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، بل إنك قد تجد بينهم من لا يملك قوت يومه. لعلّ وجه الشبه الوحيد بينهما هو تربعهما على عرش السلطة، مع فارق كبير في الممارسات والأداء.
لذا نقول، إنّ احتمال تكرار تجربة الثورة الفرنسية أو حتى بروز شخصية مصلحة كمارتن لوثر في إيران أمر شبه مستحيل، لانتفاء الحاجة لذلك.
ماذا عن التجربة العثمانية؟
في الحقيقة، يبدو لنا أنّ هامش الشبه بين التجربتين محدود أيضاً، فصحيح أنّ حكومة الباب العالي العثمانية كانت تحكم باسم الدين، ولكــن ممارســاتها لم تكن تشي بذلك، ناهـيك عن أنّ القمــع كــان ســمة السياسـة العثمــانية الأولى، فيما هامــش الحــرية فـي إيــران آخــذ فـي الاتساع، ومــن الغــبن المــقارنة بين التجربتيــن مــن هــذا الباب.
بقي هناك شيء واحد يمكن أن ننصح الإخوة الإيرانيين بالاتعاظ منه. إنه موضوع الإصلاحات. لقد عبث الأوروبيون بدار الخلافة العثمانية فألَّبوا الملل والنحل على حكومة الباب العالي حتى غدت الدولة العثمانية تعرف بالرجل المريض.
الدولة الإيرانية لا زالت حتى الآن فتية وقوية ومعافاة، ومن الغباء في مكان وصفها بالرجل المريض، ولكن على أهل الرأي هناك أن يحذروا من حصان طروادة الأوروبي والأميركي. مجدّداً نقول، إنها الإصلاحات. لقد أنصتت حكومة السيد رئيسي لمطالب مثيري الشغب فقدّمت رزمة من الإصلاحات شملت قرارين اثنين:
الأول ـ حلّ شرطة الآداب أو الأخلاق، وهي شرطة تعنى بمراقبة مدى التزام الإيرانيين بأحكام الشريعة الإسلامية.
الثاني ـ إعادة النظر في قانون إلزامية الحجاب.
هذان القراران أعادانا بالذاكرة إلى زمن الإصلاحات العثمانية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. آنذاك بلغت الوقاحة بالأوروبيين حدّ إرغام حكومة الباب العالي على إصدار حزمة من الإصلاحات شملت حتى الطربوش العثماني! أي نعم، حتى الطربوش العثماني لم يسلم من نَهَم الأوروبيين الغربيين. الأمر ذاته يحاولون تكراره مع الحكومة الإيرانية، فهل تنجح خطتهم؟
لا يبدو لنا ذلك، وإنْ كانت مسألة القرارين إياهما تثير قلقنا بعض الشيء.
لاحقاً بعدما أدرك العثمانيون فداحة استجابتهم للضغوطات الغربية، لم يجدوا بداً أمامهم من الاستسلام، وهذا بالضبط ما كان، فقد نجح قادة حزب الاتحاد والترقي العلماني في الانقلاب على الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني ووضعه تحت الإقامة الجبرية، ومن ثم تولي دفة الحكم، منذ العام 1908.
ماذا عن تجربة الاتحاد السوفياتي؟
انتصرت الثورة البلشفية الماركسية في 25 تشرين الأول 1917، وتسنَّمت كرسي الحكم في روسيا، ثم شرعت تصدِّر أفكارها الثورية إلى الدول المجاورة، فما كاد العام 1945 (موعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) يطلّ برأسه حتى كانت روسيا قد ضمّت إلى أراضيها أكبر عدد من ممكن من الدول السلافية المجاورة لها، تحت عباءة الاتحاد السوفياتي.
لم تكن العلاقات بين البلاشفة الروس وجيرانهم في الشطر الغربي من أوروبا وديَّةً يوماً، فمنذ وصولهم إلى سدة الحكم أعلن البلاشفة عداءهم التام للغربيين. وقد بقي العداء سيد الموقف على مدى 74 عاماً.
ولكن بالرغم من حالة العداء هذه، فإنّ أيّاً من الطرفين لم يجرؤ على خوض مواجهة عسكرية مباشرة مع الطرف الآخر.
بلى، وقعت بينهم الكثير من الصولات والجولات العسكرية، ولكنها لم تكن مباشرة قط. لطالما كانت في الحدائق الخلفية.
ظلَّ الطرفان يؤجلان المعركة المباشرة على مدى 74 سنة، وقد حسب السوفيات طوال تلك الفترة أنهم يُحسنون صنعاً بتأجيلهم المواجهة العسكرية المباشرة.
العالم مقسوم إلى معسكرين، شرقي وغربي، وبإمكان الطرفين تمرير الرسائل المطلوبة عبر الحدائق الخلفية، فلماذا يتكبّدان عناء المواجهة المباشرة، مع لتلك المواجهة من أكلاف وأثمان باهظة؟!
لكن، تبيّن في نهاية المطاف أنّ رهان أحدهما كان خاطئاً منذ البداءة، وأنّ الطرف الآخر استدرجه إلى هذه الحلبة. الغربيون وفي مقدمتهم أميركا كانوا يعلمون أنّ أيّ مواجهة مباشرة بين قطبي العالم ستؤدّي حتماً إلى حرب نووية لا يعلم عواقبها الوخيمة أحد، فكان أن حرصوا طوال الأربع وسبعين سنة على تحاشي المواجهة المباشرة، واضعين كلّ رهاناتهم على تآكل الجبهة الداخلية السوفياتية، بالتزامن مع الحرب الناعمة، والحملة الدعائية التي شنوها على البروليتاريا السوفياتية.
في المحصلة، كسب الغرب رهانهم، ونجحوا في إحراز النصر على الاتحاد السوفياتي دون أن يضطروا إلى إطلاق رصاصة واحدة باتجاهه، خلا رصاصة الرحمة التي أطلقوها عليه بأيادي سوفياتية خالصة (تحديداً بيد ميخائيل غورباتشوف).
فهل يتكرّر الســيناريو السوفياتي مع إيران، وهل تنجح أميركا وأوروبـا بتقويـض إيــران من الداخل كمـا فعلتـا بالاتحـاد السوفياتي؟
على المدى المنظور، لا يبدو ذلك ممكناً، فالشعب الإيراني بغالبيته العظمى لا يزال يراهن على حكومته الإسلامية، وما مشهد الجماهير المليونية المحتشدة في ساحات المدن الكبرى دعماً وتأييداً للثورة الإسلامية إلا دليل قوي على مدى قوة وصحة هذا النظام.
ولكن من يدري مستقبلاً، فالدعاية الغربية إنْ لم يكن يوازيها دعاية مماثلة من حيث القدرة والفاعلية قادرة على خداع الملايين حول العالم، فضلاً عن المجتمع الإيراني. ألم يخدعوا العالم من قبل بأكذوبة أسلحة الدمار الشامل العراقية؟!
وعلى أي حال، فقد أثبـتت الأحـداث الأخيرة أنّ المجتمع الإيراني ليس محصّناً بالقدر الكـافي. يبدو أنّ على الحكـومة الإسـلامية هنـاك أن تستبدل لقاحات كوفـيد 19 بلقاحات ثقافية تربوية لإكساب جيل الشباب مناعة فكريـة وثقافـية عالية، وإلا فإنّ المجتـمع الإيـراني ذا القاعدة الهرمية الشـابة مقـبل علـى تحـوّلات اجتماعـية وثقافـية كبيرة، لا شكّ من أنها لن تصبّ كلها في صالح النظام الإسلامي الحاكم هناك.
قــبل أيام، قالت ألمانيا على لسان أحــد مســؤوليها، إنّ «إلغــاء شرطة الأخــلاق (الآداب) في إيران لن يغيّر المطــالب الحقوقــية الإيرانية». وقبل ذلك أعرب بايدن عن رغــبة بلاده بتقديــم الدعم اللازم لمثيري الشغب في إيران، ثم توالت التصريحات الغربيــة المؤيدة لمرتكبي الأعمال التخريبــية، من فرنسا إلى بريــطانيا إلى ســواهما، ما يعني أنّ القرارين اللذين اتخذتهما الحكــومة الإيرانية، والمتــمثلين في حلّ شرطة الأخلاق، وإعادة النــظر فــي قانون فرض الحجاب، قد أثارا شهية الأوروبيين، وهو ما ينبــئ بأنّ النهم الأوروبي لن يتوقف عند حدّ هــذين القرارين، وسيتطوّر إلى مزيد من المطالبات والضغوط.
إنّ حال النهم الأوروبي، كحال المياه المالحة، كلما شرب الظمآن منها ازداد عطشاً، وهو يحسب أنه يرتوي!
*مؤرّخ وباحث لغوي وسياسي