التطرف وضرورات السياسة
} سعادة مصطفى أرشيد*
ما لم يحصل حدثٌ من خارج صندوق التوقعات، فإنّ من المفترض أن تؤدّي الحكومة «الإسرائيلية» برئاسة نتنياهو اليمين القانوني صباح اليوم الخميس، وبذلك تغادر موقع الحكم حكومة غانتس ـ لبيد، لتحلّ محلها الحكومة الجديدة الأكثر تطرفاً وغلواً في تاريخ تلك الدولة القصير، بن غفير وسموتريتش كانا قد أخذا بالتصرف كوزراء منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات وفوزهما بها، وأخذا يبادران بالاتصال بالجنود وصغار الضباط محرّضينهم على عدم تنفيذ أوامر قادتهم، مما أثار حفيظة وزير الدفاع الراحل بيني غانتس.
تعقد القيادة الفلسطينية في رام الله رهاناتها وأمانيها الرغبوية على أنّ العلاقة بين إدارة بايدن الديمقراطية وحكومة نتنياهو اليمينية هي علاقة غير طيبة، بالضبط كما كانت العلاقة بين الرجلين، نتنياهو مارس كلّ ما لديه من نفوذ وعلاقات دعماً لصديقه وحليفه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبايدن دعم خصوم نتنياهو في الانتخابات الأخيرة، وللحزب الديمقراطي تاريخ في عدم دعم حكومات اليمين في (إسرائيل) ونتنياهو، خاصة منذ المعركة الأولى التي بدأ فيها سعيه لرئاسة الوزراء عام 1996، عندما أرسل بيل كلينتون أفضل ما لديه من خبراء انتخابات إلى تل أبيب دعماً لحملة شمعون بيرس الانتخابية، ولكن فاز نتنياهو في آخر الشوط، وكان كلينتون أول من بارك له الفوز، دون أن ينسى أن يقول له: لقد بذلت أقصى جهدي لإسقاطك ولكنك فزت في النهاية بطريقه عادلة.
العلاقة بين واشنطن وتل أبيب تعلو بالمعنى الاستراتيجي فوق تفاصيل يمين ويسار وحزب ديمقراطي أو إدارة جمهورية، هي علاقة مؤسسات، ولم تكن العلاقة بينهما في يوم من الأيام على طرفي نقيض، حتى إبان أزمة السويس 1956، عندما وقفت واشنطن ضدّ الحرب على مصر، واجدة في تلك الحرب فرصتها لتصفية النفوذ الإنجليزي والفرنسي من المشرق، وكان ديفيد بن غوريون أسرع من يلتقط هذا الأمر فالتحق من فوره بالأميركي الجديد.
لكن رئيس الحكومة الجديد يدرك مدى الحاجة إلى ضبط إيقاع حكومته بما لا يتجاوز المحظورات الدولية والإقليمية، وذلك في مرحلة الحكم الأولى على الأقلّ، فأعلن في مقابلة له مع صحيفة الداخل اليهودي (jweish inside)، عن رغبته في السير قدماً في مسار التطبيع عموماً، ومع السعودية خصوصاً مشيداً بولي عهدها، وبأنه يرى أنّ التطبيع مع السعودية له خاصية، من حيث أنها قد أصبحت الدولة الأهمّ في عملية صنع القرار العربي والإسلامي، مما يؤهّلها لتكون القاطرة التي تجرّ وراءها مقطورات التطبيع من دول عديدة عربية وإسلامية.
السعودية قد أصبحت تملك فوائض مالية هائلة، وردتها من بيع النفط الذي ارتفعت أسعاره إثر الحرب الروسية الأوكرانية، وهي تحتضن المقدسات الإسلامية وترعى موسم الحجيج، لما تقدم وحسب الصحيفة، فإنّ نتنياهو معني بتقديم خدمة (إكرامية) للسعودية وولي عهدها، بتأجيل وتعليق بعض القرارات المؤلمة التي تنوي الحكومة اتخاذها في القدس وفي ضمّ أجزاء من الضفة الغربية إلى (إسرائيل)، وذلك إلى وقت آخر ولكن من المرجح أنه وقت ليس ببعيد، وتشير الصحيفة إلى أنّ الشركاء الأكثر تطرفاً في الحكومة، قد أخذوا يبدون تفهّماً لضرورات الحكومة السياسية وأنهم لن يعارضوا تأجيل التنفيذ إلى حين.
هكذا يرى نتنياهو أنه يمنح السعودية غطاء (إكرامية)، ويستطيع الزعم أنه قد قدّم لها ما يدعم سعيها للزعامة، هذا وإنْ كانت السعودية الجديدة وولي عهدها القوي لا يحتاجون لا إلى الغطاء ولا المبرّر في مسار التطبيع، فمكانتها وقوتها تتحدّد من مكانتها المالية، ثم من تنوّع علاقاتها الدولية قبل أيّ شيء آخر.
رهانات قيادتنا كعادتها، في غير محلها، فالسعودية أصبحت لديها رؤاها ومصالحها مع الجيل الجديد من الأمراء، الذين لا تعنيهم حكايا الجهاد ولا تستثير حميتهم الأغاني الحماسية، والإدارة الأميركية ستبقى ترى بمنطق المؤسسة (الدولة العميقة)، أن (إسرائيل) هي القوة العسكرية الإقليمية الأهمّ والأكثر فاعلية المحسوبة لها وعليها وهي ذخرها الاستراتيجي، ومن الطبيعي أنّ الحاجة الأميركية لهذه القوة تزداد في عالم يتعمّق اشتباكه ببعضه، فمع أزمات أوروبا الاقتصادية وحاجتها للنفط ثم مشاكل اللاجئين الذين ضاقت بهم أرضها وأموالها، إلى الحرب الروسية الأوكرانية وما تسبّبت به من أزمات طاقة، ارتفعت أسعارها إلى بحر الصين وسياسة حافة الاشتباك مع تايوان، في مقابل رهاناتنا غير الموفقة، يبدي نتنياهو الثعلب الماكر والماهر، الفرق بين أدائه الانتخابي أو كزعيم للمعارضة، وبين استحقاقات قيادته للحكومة، فيما الفلسطيني الجامد والذي لا يفعل شيئاً وسط عالم متحرك باقٍ في حالة انتظار حصول معجزة تخرجه من أزمته في زمن ولّى فيه عهد المعجزات.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة