الاقتصاد السياسي لتفكك الدولة والفراغ
ناصر قنديل
ــ قبل العام 2019 كانت موازنة الدولة اللبنانية تزيد عن 13 مليار دولار سنوياً، فيما كان مجموع الكيانات الاقتصادية والمالية الكبرى الموازية ذات البعد السياسي أو التأثير السياسي أقل من نصف موازنة الدولة، إذا استثنينا مصرف لبنان طبعاً، وأخذنا بالاعتبار توقف السعودية عن الإنفاق المألوف بالمليارات من الدولارات. فالحديث عن حجم موازنة حزب الله في التقارير الأميركية يتراوح بين 700 مليون ومليار دولار سنويا، وهو ليس أكبر اللاعبين الاقتصاديين أصحاب التأثير السياسي، ونذكره لتذكير الذين لا يذكرون سواه كلاعب مالي من خارج الدولة بأنه أقل اللاعبين انفاقاً وصناعة للنفوذ بقوة الإنفاق، كما سيظهر معنا. فمنذ تدفق النازحين السوريين على لبنان وتحوّلهم إلى عنوان صعود ظاهرة جمعيات المجتمع المدني التي زاد عددها عن الثلاثة آلاف جمعية عام 2019، صارت المبالغ المدوّرة عبر هذه الجمعيات تقارب ملياري دولار سنوياً، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة، وبقيت الدورة الاقتصادية والمالية الأكبر في حلقة إنتاج وتوزيع الكهرباء من خارج مؤسسات الدولة عبر مجموعات المولدات المنتشرة على مساحة الأراضي اللبنانية، والتي كانت قبل العام 2019 تؤمن بين 4 و8 ساعات يومياً وتقوم بدورة مالية اقتصادية حجمها أكثر من ملياري دولار.
ــ عملياً شكلت جمعيات المجتمع المدني عبر تمويلها فرصة عمل لقرابة الخمسين ألفاً من الكوادر المهنية والعلمية الشابة، بالإضافة إلى مصدر لعقود لعشرات المتعهدين في مجالات مقاولات البناء والكهرباء والصرف الصحي وشبكات الانترنت والبرمجيات وشراء المعدات التقنية والأدوية، لكن الدورة الأوسع اجتماعياً لهذه الجمعيات وإنفاقها كان بين السوريين المستفيدين من المساعدات المادية والعينية وقد تجاوز عددهم ربع مليون سوري، لتتشكل حول هذه الجمعيات قوة اقتصادية واجتماعية أكبر من حجم الحضور الفلسطيني، الذي لا يبلغ رقم الإنفاق ضمنه، سواء عبر الأونروا ومنظمة التحرير الفلسطينية أو المنظمات الأخرى ربع المبلغ الذي يتم تدويره تحت عنوان النزوح السوري، بينما بالتوازي كانت شبكة أصحاب المولدات تشغل ما يزيد عن مئة ألف لبناني لكن من ذوي الكفاءات العلمية الدنيا بين حرفيين وجباة يديرها مدراء وأصحاب شبكات هم من قادة الأحياء المحلية الذين شكلوا امتداداً للتشكيلات السياسية الحزبية الطائفية الكبرى، وفقاً لمناطق السيطرة والنفوذ، تجاورهم شبكة أقل حجماً على الصعيد المالي وتتداخل معها في الملكية والتوظيف والمرجعية، هي شبكة موزعي اشتراكات الساتلايت في الأحياء والبلدات اللبنانية، يدور عبرها قرابة ربع مليار دولار سنوياً، بينما تحدثت قيادة حزب الله عن مئة ألف مقاتل منتظمين في صفوف الحزب عدا عن عشرات المؤسسات الخدمية والتربوية والصحية، ترجمت في الانتخابات النيابية بأكثر من ثلاثمئة ألف صوت تفضيلي، بحيث ليبدو أن الفارق كبير بين حجم وزن الحزب اجتماعياً وحجم نسبة موازنته من موازنات شبكتي المجتمع المدني والخدمات البديلة المستمرة منذ الحرب والمستندة الى قواها ونتائجها، لصالح تظهير الدور السياسي والمعنوي في حالة حزب الله بوضوح، بينما كان مصرف لبنان اللاعب الأكبر من خارج الدولة وإنفاقها بتحكمه بإنفاق قرابة سبعة مليارات دولار سنوياً من أموال المودعين لسد الفجوة بين الطلب والعرض على الدولار، أو ما يُعرَف بالعجز في ميزان المدفوعات، لتثبيت سعر الصرف، وتمويل الإنفاق العام للدولة ومؤسساتها، وما انتجه من نفوذ على صناع القرار السياسي وعلى المجتمع بشرائحه المختلفة، وبأخذ إنفاق مصرف لبنان بالاعتبار يتضح لنا أن الإنفاق الإجمالي للدولة يعادل الإنفاق الإجمالي من خارجها، حيث مصرف لبنان في المقدمة وتليه جمعيات المجتمع المدني وشبكة المولدات برقم متساوٍ تقريباً، ويليهم حزب الله ووسائل الإعلام برقم متساو تقريباً أيضاً.
ــ بعد العام 2019 توسّع تمويل جمعيات المجتمع المدني وتوسّع لاحقاً مع انفجار مرفأ بيروت، وصولاً لرقم يقارب الأربعة مليارات دولار سنوياً، ويتوقع أن تنخفض للعام المقبل إلى ما دون الملياري دولار، وتوسّعت موازنات شبكات المولدات مع تحولها الى مصدر وحيد لتأمين الكهرباء، فقاربت الخمسة مليارات دولار سنوياً، ودخل على الخط تمويل المؤسسات الإعلامية برقم يقارب المليار دولار سنوياً، بينما تراجعت وفقاً لأرقام الموازنة العامة للدولة أرقام الإنفاق العام الى مليار دولار فقط سنوياً، ودخل على الخط عامل جديد هو استبدال مصرف لبنان لموقعه كقوة مالية اقتصادية على رأس النظام المصرفي، من الاعتماد على الإنفاق من الودائع كمصدر للقوة، إلى الاعتماد على الحق الحصري بطباعة الليرة اللبنانية، بحيث شكلت كمية الأموال المطبوعة سبع مرات الكمية التي كانت قبل العام 2019، بحيث جرى استخدامها لسحب الدولارات الواردة من تحويلات الاغتراب، والتي زادت من ستة مليارات دولار الى ثمانية مليارات دولار سنوياً بين عامي 2019 و2022، قام باستخدامها للتحكم بسوق الصرف صعوداً وهبوطاً، وبذلك حافظ مصرف لبنان على مكانة المركز الأول في الإنفاق من خارج الدولة وموازنتها، وتليه مجدداً شبكة المولدات، تليها جمعيات المجتمع المدني المرشحة للتراجع العام المقبل، يليها حزب الله ومؤسسات الإعلام التي بات مصرف لبنان مصدراً رئيسياً لتمويلها، والدولة برقم المليار دولار وحده تشكل أقل من 10% من حجم الإنفاق الإجمالي، ما يفسر تراجع مكانتها السياسية حتى أمام مكوّناتها المستندة الى اقتصاد المولدات وشركات استيراد النفط، وأمام حاكم مصرف لبنان الذي يفترض أنه أحد الموظفين الكبار ومقدرات التحكم بالمال التي يملكها ويفترض أن تكون لحساب الدولة، وتدخل معه حديثاً شركات الوساطة التي تعمل لحساب المصرف في شراء وبيع الدولارات كلاعب من خارج الدولة بموازنة إجمالية مدورة تزيد عن أربعة مليارات دولار سنوياً، وعائدات أرباح تقارب مئتي مليون دولار، وحجم تشغيلي لا يزيد عن الخمسة آلاف شخص.
ــ باستثناء حزب الله الذي يشكل لاعباً سياسياً وشعبياً وإقليمياً بمصادر قوة لا تعبر عنها أرقام موازنته، والذي يسعى لتوظيف مكانته لمشروع التوافق الداخلي وحماية مشروع المقاومة، تبدو الدولة أضعف اللاعبين بين مكوناتها السياسية والطائفية من جهة، والمواقع المؤسسية المتفرّعة عنها من جهة موازية، ما يعني أن الاقتصاد السياسي يفسّر التفكك والضعف في وضع الدولة من جهة، ويفسر الفراغ من جهة مقابلة.