أيها العرب: راجعوا سياساتكم… فالتاريخ لا يصنعه الضعفاء
د. عدنان نجيب الدين
يُقتل جندي إيرلندي من قوات الطوارئ الدولية بسبب سوء تصرف مؤسف ومدان، فتقوم الدنيا ولا تقعد. استنكر المسؤولون اللبنانيون هذه الحادثة، وأيضاً استنكرها المسؤولون العرب، كما استنكر العالم كله مقتل الجندي، بما في ذلك المنظمات الدولية ومنها منظمات حقوق الإنسان هذه الواقعة المؤسفة. لكنها تعامت وتتعامى عن مقتل الفلسطينيين على أرضهم من قبل عصابات صهيونية غزت فلسطين منذ بدايات القرن الماضي بقوة السلاح وقوة الاستعمار البريطاني والغربي، وكذلك بتخاذل بعض المسؤولين العرب وقتذاك…
المثير للسخرية أنّ أكثر الدول التي أدانت مقتل هذا الجندي الايرلندي هي أميركا ومن لفّ لفها من الدول التي شاركت في غزو العراق وأفغانستان وقتلت مئات الآلاف من المدنيين وجرحت الملايين من هذين الشعبين، كما تسبّبت أيضاً بمقتل مئات الآلاف في الفوضى التي أحدثتها في بلداننا تحت مسمّى “الربيع العربي”.
واليوم، أمام هذه الارتكابات الإجرامية الصهيونية بحق الفلسطينيين، بقتل أبنائهم وهدم بيوتهم ومصادرة أرضهم، حتى الأطفال لم يسلموا من القتل والتنكيل، فلا نرى انّ جرائم الاحتلال هذه قد حركت حساً إنسانياً عالمياً، فتغيب هذه المجازر عن استنكار الدول الغربية والإعلام العالمي. فهل الإنسان العربي الفلسطيني أقلّ قدراً وأدنى مرتبة من ايّ إنسان آخر؟ أو أنه لا ينتمي إلى سلالة البشر؟
غريب أمر دول العالم وحكامه، وغريب أمر بعض الإعلام العربي الذي لا يورد أخبار قتل الفلسطينيين وهدم بيوتهم إلا لماماً. ماذا دهانا نحن العرب وماذا دها بعض المسؤولين عندنا؟
ألا يشاهدون ما يحصل في فلسطين على أيدي الغزاة الصهاينة؟
إلى هذه الدرجة من حضيض الحسّ القومي والإنساني هبطنا من علياء حضارتنا وإنسانيتنا وبتنا نشاهد كلّ هذه المآسي التي تحلّ بشعبنا الفلسطيني ولا أحد يتحرك أو يستنكر او يتخذ خطوة واحدة لوقف هذه الارتكابات، لا في الإعلام ولا في منظمات الأمم المتحدة، ولا حتى في الجامعة العربية الا نادراً…
يُعتدى على المسجد الاقصى بشكل متكرّر ويكاد يكون يومياً، والكلّ يرى ويسمع وكأن شيئاً لم يكن، حتى الدول التي تحمي الكيان الصهيوني لم يتمّ استدعاء سفرائها للاحتجاج او للطلب من حكوماتها وقف المجزرة “الإسرائيلية” المتمادية التي يُقتل فيها الفلسطينيون كلّ يوم أطفالاً ونساء وشيوخاً، ويجري التنكيل بهم، فضلاً عن مصادرة أراضيهم لإقامة المستعمرات عليها.
فما يقوم به الاحتلال هو أقرب إلى الإبادة الجماعية التدريجية، سواء بالقتل العمد أو بتهديم البيوت وتعذيب المعتقلين في السجون…
لا نطلب من الأنظمة العربية أن تشنّ حرباً على الكيان الصهيوني لأنّ مثل هذا العمل ليس في أذهانهم ولا في سياساتهم ولا في مقدورهم لأنّ الأسلحة التي يشترونها بمئات المليارات من الدولارات ممنوع عليهم استخدامها في وجه الاحتلال “الإسرائيلي”، لكننا نقول لهم على الأقلّ ارفعوا الصوت بدل الصمت عن هذه المجازر وكأنها غير موجودة أو أنها لا تعنيكم…
نحن نعلم أنّ شعوبنا العربية لا ترضى بكلّ هذه الجرائم والاعتداءات على كرامات العرب والمسلمين وعلى حياتهم لأنها تعي خطر الاحتلال الصهيوني على كلّ الأمة العربية وعلى الجوار، فالشعوب العربية والإسلامية المغلوبة على أمرها لا تقبل بهذه الأفعال الشائنة واللا إنسانية، وهذا ما أظهرته مناسبة ألعاب المونديال لكرة القدم في قطر، حيث رفع اللاعبون العرب علم فلسطين كالتزام منهم بقضية العرب الأولى، وتعبيراً عن تضامنهم مع شعبها المكافح من أجل حقه في وطنه والمضحي والمظلوم. الفلسطينيون مظلومون من الأنظمة العربية قبل أن يكونوا مظلومين من قبل الصهاينة ومن العالم لأنه ترك وحيداً في معركته مع الاحتلال… شعب طرد من أرضه منذ سبعة عقود ونيّف من السنين، شعب يعيش حياة الذلّ في المخيمات بعد أن صودرت منه أرضه وممتلكاته واستولت عليها بالقوة عصابات جاءت من كلّ حدب وصوب… ومن استطاع البقاء في فلسطين يعاني ظلم الاحتلال ومرارة العيش. شعب ترك وحيداً تنهش بجسده الآلة الحربية الصهيونية العنصرية.
ولكم نقول أيها المسؤولون العرب، حسناً فعلتم باستقبالكم الرئيس الصيني وعقدتم معه هذه القمم العربية لبدء مسار جديد في العلاقات العربية الدولية ووضع حدّ للهيمنة الاميركية. لكن ماذا يمنعكم من التقارب مع الجمهورية الإسلامية في إيران لتشكلوا معها قوة لا تهزم. وارجعوا إلى التاريخ الذي ينبئكم بأنّ الحضارة العربية الإسلامية قامت وتبلورت وازدهرت من خلال التفاعل الثقافي بين الشعوب الإسلامية لا سيما بين الفرس والعرب. ولتنبذوا العصبية والعنصرية، فالنبي محمد قال: “ليس منا من يدعو إلى عصبية”.
أما أميركا التي لقبت بالشيطان الأكبر، فلأنها تثير بينكم العداوة والبغضاء، وهي إذا كانت تهتمّ بكم وتقدّم لكم الحماية المدفوع ثمنها مسبقاً، إنما تفعل ذلك ليس لأنها تحبكم، وليس لأنها معجبة بدينكم أو ثقافتكم او حضارتكم، بل لأنها تبحث فقط عن مصالحها وليس عن مصالح شعوبكم، فالسياسة ليس فيها حب ولا كره، بل فيها مصالح، وهذه المصالح ليست دائمة بل متغيّرة، وهي معروفة بأنها حليف للكيان الصهيوني وليست حليفتكم. وهي لا تكنّ لكم ايّ تقدير. وما اهتمامها بكم إلا لأنها تعتبر دولكم بقرة حلوب كما صرّح بذلك الرئيس الأميركي السابق ترامب، ولأنّ بلادكم تعوم على بحر من الغاز والنفط.
هذه النعمة من الثروات التي حباكم الله إياها كانت فرصة لتدخلوا من خلالها إلى أسواق العالم، والمطلوب لكي يحترمكم العالم هو أن تدخلوا الى عالم الحضارة فكرياً وعلمياً وصناعياً وتكنولوجياً. المطلوب هو أن تعمدوا الى بناء قوتكم الذاتية، وأن تهتمّوا ببناء مقومات اقتصادكم الزراعية والصناعية لكي لا تبقوا رهينة السوق العالمية للغذاء والدواء والسلاح والسلع الاستهلاكية. المطلوب تحقيق إنجازات تكنولوجية وان تستثمروا في بلاد العرب الواسعة ذات الأراضي الخصبة. لماذا لا يوظف جزء من أموالكم على التنمية في البلدان العربية بدل أن تصرف في الحروب التي سُمّيت بالأهلية وهي حروب إرهابية على عالمنا العربي تحت شعار زائف صنعته لنا أميركا وهو “الربيع العربي” الذي أنتج الكوارث إنسانياً ودمّر المدن والقرى والبنى التحتية فيها.
أنّ ما يجدر إنعام النظر فيه هو انّ الاقتصاد القائم على عائدات النفط والغاز، والرفاهية الناتحة عن أموال هذه الثروات، كله سينتهي بانتهاء هذا العصر. فهل سيعود العرب بعد انقضاء الطفرة النفطية إلى العيش في مدن عامرة بالحجارة والإسمنت لكنها فارغة من كلّ أسباب الحياة، فنعود جميعاً إلى العيش كما لو أننا في صحراء قاحلة بحثاً عن العشب والماء؟
اعلموا أنّ التاريخ لا يصنعه الضعفاء، بل يصنعه الأقوياء الذين يسلكون مسار التعليم العالي والأبحاث العلمية والاختراعات التي هي أساس البناء الاقتصادي المتين القائم على قاعدة اقتصادية صلبة، لذلك يجب استغلال هذه الطفرة المالية لتأمين المستقبل للأجيال القادمة. وما زال الأمر متاحاً لكم أيها العرب لكي تقوموا بنهضة حقيقية. فالازدهار الحقيقي ليس بمظاهر البذخ والثراء الفاحش، ولا بالأبنية الفخمة والقصور الوارفة بل بهذه البنى التحتية الضرورية التي استقدمتم الشركات الغربية لإنجازها في بعض بلدانكم، وهذا شيء جيد، ولكنه لا يكفي. لأنّ المطلوب الاستفادة منها لخلق قاعدة اقتصادية من نوع آخر لا يرتكز على النفط والغاز.
المطلوب اليوم هو خوض معركة التحدي الحضاري مع الغرب لتثبيت الحضور العربي والاستعداد للمستقبل، وذلك من خلال تنشئة جيل متعلم يفيد بلاده بالعلم والإبداع وقادر على الابتكارات، جيل يستطيع تصدير نتاج ابتكاراته لكلّ دول العالم، جيل يستطيع أن يفاخر بعروبته ويعتز بلغته العربية، وبعقله المبدع، وبأنّ ما يبنيه أو يصنعه في وطنه هو من إنتاج عمله العقلي الخالص وإبداعاته ومهاراته.
جيل يستطيع خلق الجديد من الصناعات في كلّ المجالات ويفاخر بأنها صناعات عربية يتنافس العالم على شرائها والاستفادة منها، فلا يجب ان يبقى النفط والغاز، هما السلعتان الوحيدتان اللتان يجري الغرب خلفهما، مصدر اهتمامه في منطقتنا، بل يجب أن يكون لدينا كعرب صناعات متعددة ومبتكرة، ليس أقلها الصناعات الغذائية والطبية والآلات الكهربائية والالكترونية وأجهزة الكومبيوتر والبرمجيات ووسائل الاتصالات وغيرها من الصناعات المفيدة والمربحة لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي الضرورية لمجتمع متقدّم يواكب العصر ويتخطاه. كما يجب أن يكون اعتمادنا على أنفسنا في صناعة الأسلحة المتطورة. فبعد أن ينتهي عصر الغاز والنفط، تبقى استثماراتكم في الزراعة والصناعة والتكنولوجيا العالية هي أمانكم وزادكم للحياة المقبلة وحياة الأجيال الصاعدة. فالأمم العظيمة لا تعيش لجيلها فقط، بل تخطط للمستقبل، لمئة سنة على الأقلّ، آخذة بعين الاعتبار أبعاد نموها الطبيعي والديموغرافي والمتغيّرات المقبلة التي تأتي بها عجلة التطور البشري، وما يتوقع أن يكون عليه العالم بعد أجيال وأجيال. هكذا تفعل الدول والحكومات ذات النظرة الثاقبة التي تريد ان تبقي لها مكانا ًمحترماً بين الأمم.
ماذا ينقصنا كعرب لكي نكون خير أمة أخرجت للناس؟
انّ مساحة الوطن العربي تماثل مساحة الولايات المتحدة الأميركية، ولدينا كثافة سكانية تفوقها عدداً، ومساحات شاسعة من الأراضي الخصبة والأنهار والنفط والغاز والمعادن، وكذلك لدينا الشمس المشرقة دائماً بما يشكل أساساً للطاقة البديلة، ولدينا قامات علمية وفكرية رائعة، فماذا ينقصنا لكي نتوحد وننشئ مثلا الولايات العربية المتحدة؟ لقد بدأ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مشروعه النهضوي بقيام الجمهورية العربية المتحدة من إقليمَي مصر وسورية، وكان يطمح إلى وحدة عربية شاملة ليصبح العرب ضمن كيان واحد قوي ومزدهر. وبدأ بتأسيس نهضة زراعية وصناعية كان يمكن، لو تمدّدت، أن تنقل العالم العربي إلى قمة التطور على مختلف الصعد. لكن مشروعه أجهض بسبب تخلف السياسات العربية الرجعية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب.
واليوم، لا نطلب منكم أيها العرب إلا التوحد حول مشروع جديد للنهضة ولو بالحدّ الأدنى. فماذا لو عمد المسؤولون عندنا إلى رسم سياسة جديدة غير سياسة التطبيع المخزي مع العدو “الإسرائيلي”.
ماذا لو عمد مسؤولونا الى استرجاع العلماء العرب من الدول الأجنبية التي يخدمون في جامعاتها ومختبراتها ومراكز أبحاثها العلمية للاستفادة من خبراتهم لمصلحة اقتصاد الأمة العربية ومجتمعاتها التي يجب أن تنتصر بعلمائها وقدراتها على التخلف والجهل، واعتماد القوة الذاتية وعدم الاتكال على ما يصنعه الغرب ويبيعه لنا.
إنّ ثرواتنا المالية تستثمر في الغرب لزيادة رفاهيته بينما يزداد الفقر عندنا، وما يجري هو ضخ الأموال للإرهابيين والاستثمار في الحروب التدميرية لبلادنا وشراء الأسلحة التي لم تستعمل مرة في وجه الكيان الصهيوني الغاصب بل في تخريب مجتمعاتنا وقتل شعوبنا.
انّ جرائم العدو الصهيوني ومخططاته العدوانية مشاريعه التوسعية، وكذلك انتشار الأوبئة والحرب الأوكرانية والحروب السيبرانية يجب أن تفتح أعين الحكام العرب على ضرورة الاعتماد على الذات لكي نبني أوطاننا ومجتمعاتنا بغير النهج الذي اتبعناه حتى اليوم. ايّ بانتهاج استراتيجية توحيد الجهود وإقامة المشاريع الإنتاجية المشتركة وجعل فلسطين بوصلة العمل العربي الموحد.
يجب العمل على جعل صوت مظلومية شعبها يدوّي في العالم ويهزّ ضمائر الشعوب والحكام. فهل يجوز أن يبقى شعبنا يجوع ويتألم فيما أثرياؤنا العرب ومعهم العالم الغربي يسكرون برفاهيتهم التي حصلوا عليها نتيجة استغلالهم لشعوبنا ولشعوب العالم؟
لقد جاءت الحرب الأوكرانية لتصيب الأوروبيين بالصداع ويعلموا معنى القتل والتهجير ومعنى كلمة “لاجئين”.
وختاماً نقول: لا يجب ان تُهزم الأمتان العربية والاسلامية أمام الاحتلال الصهيوني وأمام تجاهل الغرب لحقوق شعبنا الفلسطيني…
ماذا لو توحّدنا حول فلسطين والعمل على استرجاعها من أيدي الصهاينة المحتلين؟ أليس ذلك ممكناً ومتاحاً لو نهجنا الطريق السليم؟
لقد اثبتت مقاومة الشعب الفلسطيني حيوية قضيته من جيل إلى جيل، وهي قضية الأمة العربية والإسلامية، كما أثبتت المقاومة في لبنان إمكانية الانتصار على العدو بتحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الصهيوني واندحاره بلا قيد ولا شرط وخروجه مذلولا مهانا منها؟ الا يكفي هذا الانتصار ليستعيد العرب ثقتهم بأنفسهم ويراجعوا سياساتهم وتوجهاتهم ويقرّروا أنّ صون أوطانهم وحفظ كرامتهم لا يكونان بالتطبيع مع العدو والاستسلام له، بل بالتصدي له ومقاومته والعمل على إخراجه من أرضهم الطاهرة. فليكن لكم أيها المسؤولون العرب شرف الإسهام في دعم المقاومة الفلسطينية لتحرير الارض السليبة واستعادتها كاملة غير منقوصة من البحر إلى النهر، ففلسطين كانت ويجب أن تبقى عربية، أما القدس فهي درّة التاج في الكرامة العربية والإسلامية، ويجب أن تعود إلينا جميعاً عرباً ومسلمين عزيزة مطهّرة من دنس الاحتلال الصهيوني.