التنمية وفقاً لروشتة صندوق النقد الدولي!
د. محمد سيد أحمد
ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن صندوق النقد الدولي، وهو المؤسسة المالية الدولية التي تأسّست عام 1944، وبدأ عمله في 27 ديسمبر 1945 في مؤتمر (بريتون وودز) بولاية هامبشير الأميركية انطلاقاً من أفكار الاقتصاديين هاري ديكستر وايت وجون مينارد كينز، ثم بدأ الوجود الرسمي لصندوق النقد الدولي في عام 1956 عندما شاركت 29 دولة في تأسيسه بهدف إعادة هيكلة النظام المالي الدولي، ووصل عدد أعضاء الصندوق اليوم 190 دولة، حيث يلعب الصندوق دوراً مركزياً في إدارة ميزان المدفوعات والأزمات المالية العالمية، وتساهم الدول في تمويل احتياطات الصندوق عبر نظام الحصص الذي يسمح للدول باقتراض المال عندما تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات وتتحدد الحصص وفقاً لقوة الاقتصاد، حيث تشكل الولايات المتحدة الأميركية أكبر اقتصاد في العالم وتساهم بالنصيب الأكبر اليوم في الصندوق بنسبة 17،6%. ويعلن صندوق النقد الدولي في أهدافه الموضحة في بنود الاتفاقية أنه يعمل على تحسين جودة اقتصاديات الدول الأعضاء عبر التمويل النقدي، وجمع الإحصائيات والتحليلات ومراقبة اقتصاديات تلك الدول، ومطالبتها بتطبيق بعض السياسات مثل تحفيز التعاون النقدي الدولي والتجارة الدولية، والحفاظ على معدلات التوظيف المرتفعة، واستقرار سعر الصرف، وتحفيز النمو الاقتصادي، وإتاحة الموارد للدول الأعضاء في أوقات الأزمات المالية، وتقليص الفقر في مختلف أنحاء العالم.
وعلى عكس المعلن فصندوق النقد الدولي يُعدّ أحد أهم الأدوات الاستعمارية التي اخترعها النظام الرأسمالي العالمي بهدف إفقار شعوب العالم الثالث، فمنذ انتهاء الاستعمار العسكري التقليدي في منتصف القرن العشرين على يد حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، والدول الاستعمارية القديمة والحديثة تحاول البحث عن آليات استعمارية جديدة وغير تقليدية، وقد تفتق ذهن الغزاة إلى استحداث آلية استعمارية اقتصادية جديدة وغير مباشرة وقد تمثلت هذه الآلية في صندوق النقد الدولي وهو بديل لصندوق الدين المعروف في ظل الإمبراطوريتين الاستعماريتين الانجليزية والفرنسية في القرن التاسع عشر، ولمصر تجربة مريرة مع الصندوق القديم حين استدان منه الخديوي إسماعيل وكان بداية للتدخل الأجنبي في شؤون مصر ومهد للغزو والاحتلال البريطاني في عام 1882.
أما تجربتنا مع الصندوق الجديد فبدأت مع مطلع تسعينيات القرن العشرين وبعد عشر سنوات من حكم الرئيس مبارك، وبعد ما يقرب من عقد ونصف من تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي المزعومة التي فرضتها الإمبراطورية الاستعمارية الجديدة المعروفة باسم الولايات المتحدة الأميركية على الرئيس السادات الذي صدر للرأي العام المصري مقولته الشهيرة إنّ 99 % من أوراق اللعبة في يد الأمريكان لكي يوهم الشعب بأنه لا يمكن الخروج من حظيرة الطاعة الأميركية، ومنذ ذلك التاريخ والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من المصريين في تدهور وانهيار، والاقتصاد المصري يتعرّض لهزات كبيرة، وفي إطار سعي الرئيس مبارك للبحث عن حلّ للمشكلة الاقتصادية المتفاقمة وفي ظلّ ما أطلق عليه الإصلاح الاقتصادي، والتكيف الهيكلي، وجدنا الأداة الاستعمارية المعروفة بصندوق النقد الدولي تفرض وجودها وإرادتها وشروطها على مبارك وحكوماته المتتالية، حيث بدأت عملية تصفية وبيع القطاع العام، وفرض ضرائب متعدّدة على المواطن المصري الفقير، وتمّ تعويم الجنيه حيث انخفضت قيمته عدة مرات أمام الدولار، وكانت نتيجة تنفيذ مبارك لروشتة الإصلاح الاقتصادي المفروضة من الصندوق هي مزيد من الديون، ومزيد من المعاناة لجموع المصريين، ومزيد من الفقر، لذلك أطلق بعض المصريين على الصندوق مسمّى صندوق الفقر الدولي.
وخلال العقدين الأخيرين زاد الحديث عن تركيز الصندوق على تخفيف حدة الفقر كهدف موسع لجميع أعماله، وأنه يركز جهوده على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية التي تمت الموافقة عليها من جانب أعضاء الأمم المتحدة عام 2000، والتي تستهدف تحقيق تخفيف مستدام لحدة الفقر، لكن وعلى الرغم من ذلك تؤكد العديد من الدراسات أن غالبية الدول التي لجأت لصندوق النقد الدولي لم تتمكن من التغلب على مشكلات الفقر ولم تتمكن من تحقيق أي شكل من أشكال التنمية، ويعتبر بعض المراقبين والمحللين صندوق النقد الدولي أبرز أدوات النظام الرأسمالي العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية لتكريس التخلف والتبعية لمجتمعات العالم الثالث، حيث يقوم بإقراض الدول الفقيرة بقصد التنمية ظاهراً بينما هو في الحقيقة يقوم بتطبيق الشروط الخاصة به والتي عادة ما تكون ضد مصلحة الدول الفقيرة. فالصندوق يقوم بإقراض الدول الصغيرة بما يساعد حكومات الدول الكبرى خاصة الولايات المتحدة الأميركية على التدخل اقتصادياً في هذه الدول، عبر استثمارات وجماعات ضغط تجعل من هذه الدول تابعة لها، وبالطبع هناك العديد من الأمثلة التي تؤكد ذلك وتدعمه. فغالبية الدول التي اقترضت من الصندوق ما زالت تعاني من ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتي تتزايد بتزايد معدلات الديون، حيث يرغم الصندوق هذه الدول على اتباع نمط اقتصادي معين يجعله يتدخل بشكل مباشر في السياسات الاقتصادية لهذه الدول، ومن أبرز النماذج التنموية الحديثة كان النموذج الماليزي، وعندما سئل رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد عن كيف نهضت ماليزيا؟ فقال: “لقد خالفت توصيات صندوق النقد الدولي، وفعلت عكس ما طلبه من إجراءات”. وعلى الرغم من تجربتنا المريرة مع الصندوق في عصر مبارك لا زالت الحكومات المتتالية تعتمد على روشتة الصندوق لتحقيق التنمية، فمتى نتعلم من تجاربنا الفاشلة؟ ومتى نستفيد من خبرات من سبقنا على طريق التنمية؟ اللهم بلغت اللهم فاشهد.