أخيرة

“نعيب زماننا والعيب فينا”

سارة السهيل
ساعات قليلة شاء لي ربي أن أخلو فيها بنفسي بعيداً عن “الميديا” والأصدقاء والأهل لأستعيد قدراً من الصفاء النفسي والروحي، وإذا بشريط سينمائي من الذكريات عن حكايات أمي وجدتي يقفز في مخيّلتي ويعايش وجداني مستحضراً تلك العلاقات الدافئة في المحيط الأسري والاجتماعي العام.
يا الله… ما أروع التلاحم والتراحم بين الناس، وما هذا الجمال الرباني في المشاعر والسلوكيات الأكثر رقياً وتحضراً وإنسانية، وما هذه الطمأنينة والسكينة التي تغلفان مشاعرنا، فالغني لا يُشعِر الفقير بفقره، ولا الفقير يُظهِر ضعفه وحاجته للغني من باب التعفف وحفظ الكرامات، ومع هذا كان كلاهما يمدّ الآخر بالعطف والحنان والمودة والاحترام والتقدير.
كان الجار جزءاً أصيلاً من الأسرة، والأمهات والبنات يتبادلنَ الحديث اليومي عبر الشرفات و”البلكونات”، هذه “تعزم” الجارة على شاي بالميرامية، وتلك تُقسِم على جارتها لتتذوّق زعترها،
وأسطح المنازل كانت مسارح للسمَر والأسرة لا تخشى ان “تنكشف” على الجيران، لأنّ الجار له حرمة مقدّسة كحرمته في أولاده وأهله، أما اليوم صارت الناس تختبئ من بعضها والذكي هو من “يعلّي” سور بيته أكثر حتى لا يلمحه جاره.
حتى أهل الحي الواحد كانوا يعتبرون بستان جارهم كأنه بستانهم يحافظون عليه ولا يخجلون من قطف بعض ثمراتٍ منه، أما في هذا الزمن فإنّ الناس تزنِّر مزراعها وبساتينها بأسياج حديدية وتحوّطها بأسلاك تشبه أسلاك الحروب ومرتكزات قوات الاحتلال. حتى الثمار تغطَّى لمنع الناس من قطف ثمرة، ولمنع العصافير المارقة من ان تنتش ثمرة تروي عطشها وتسدّ جوعها في حرّ الصيف وبرد الشتاء.
كانت قلوب الناس طيبة وبيوتها مفتوحة ولا يتذمّر أحد من ضيف ولا يتثاقل من عزيمة مهما كانت بسيطة، بينما صارت الأنانية اليوم المبدأ والحاكمة والمتحكمة في فضاء السلوك الانساني، فلا قيمة لتراحُم وأخوّة و”جيرة”، إنما القيمة الوحيدة التي تتصدَّر المشهد النفسي والسلوكي اليومي لبني البشر هي قيمة الـ “أنا” والذات و”من بعدي الطوفان”.
فما الذي غيَّر إنسان هذا الزمن وقلب طاولة أخلاقه 180 درجة نحو القسوة والأنانية، هل هي التربية أم هو الزمن ومتغيّراته وطبيعة تحدياته وتكنولوجياته من” انترنت” و”حاسوبات” وبرامج تكرّس واقعاً افتراضياً جعلت إنسان هذا العصر يعيش العزلة عن الواقع ورفض قيَم الجماعة فيه.
فلو كانت أزمة تربية فإنّ أمهاتنا قد ورثنَ أساليب التربية من أجدادنا، وورثنَ طيبة القلب وحب الخير وتلمُّس الأعذار للناس الأقربين والأبعدين، وما هي أسباب النكبة الأخلاقية الحالية؟ فهل هو غياب الوعي الديني؟ لا أظنّ ذلك لأنّ قيَمنا الدينية كانت تُقدّم بأساليب بسيطة سهلة التطبيق، وكان ما يسرده لنا مدرّس الدين من القصص الدينية يُبكينا خشوعاً وإيماناً، ولو أخطأت واحدة منّا في سلوك معيّن سرعان ما تراجع نفسها وضميرها وتعلن توبتها وتضبط إيقاع سلوكها على الطريق المستقيم.
كانت خطبة الجمعة مليئة بالحكم والمواعظ الدينية عن الأخلاق والإيمان دون تخويف او تنفير من الدين، بل تحفّزنا على التعايش بالحب والتسامح والمغفرة، بينما تعجّ الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي اليوم بالقنوات والمشايخ والثقافة الدينية الموسعة، ومع ذلك فإنّ الأجيال لا تستقبل شروحات المشايخ بقلب مؤمن، لأنّ القلوب صدأت وخُرّبت بالحقد والحسد والعنصرية والتعصب، ولأنّ التركيز فقط يكون على المظهر الديني دون الجوهر وكأنه جواز مرور.
قد يبرّر البعض ما يحصل اليوم وإلقاء تبعاته وأزمته الأخلاقية في ملعب الأزمة الاقتصادية ومتطلبات الحياة والأوضاع المعيشية الغالية والتكلفة العالية في التعليم والطبابة والأجهزة الحديثة الضرورية لكلّ عائلة، مع انّ أهلنا ومن سبق من أجيال تعاقبت يعيشون حياة بسيطة خالية من كلّ الكماليات والرفاهيات التي تتمتع بها أجيال اليوم وراضون بمعيشتهم من دون منافسة أحد لأحد او تقليد الآخرين.
لكننا اليوم لم نعد نرضى بـ “المقسوم” وأصبحنا نستهلك وقتنا وعمرنا في أعمال شاقة ولساعات طويلة لجلب المزيد من وسائل الترفيه والتنافس في الدنيا لنكون أغنى من غيرنا ونتمايز عن الآخرين بما نملكه فوقعنا في فخ إبليس وخضعنا للمادية المتجبّرة، وإذا القلوب تصبح أشدّ قساوة من الحجر،
فالأمّ انشغلت بوظيفتها ونجاحها فيها كسباً لمال أكثر، ولكي توفّر لطفلها ابن الثماني سنوات “موبايل” مرتفع الثمن من دون ان تعي أنها تقتل براءته، في حين أنها لم توفر له الوقت الكافي لاحتضانه وإشباعه بالحنان والتربية، وكذلك الأب مشغول بجمع المال لتجديد سيارته ولإظهار صورته الراقية أمام المجتمع على حساب دوره الرقابي على أسرته.
للأسف كلنا تغيّرنا وسرنا في متاهات المادية المقيتة، فبدت لنا سيئاتها وخسرنا انسانيتنا.
فهل من سبيل للرجوع عنها؟ انه قرار فردي أولاً واجتماعي ثانياً والمهمّ ان نبدأ في تصحيح طريقنا، ونتخلى تدريجياً عن مظاهر الرفاهية والمادية، ولتكن الأزمة الاقتصادية العالمية والحروب والمجاعات حافزاً لنا لنغيّر أنفسنا ونمدّ يد العون لكلّ محتاج ونشفق على كلّ مخطئ ونرمي له طوق النجاة قبل الغرق.
إنها مهمة غير مستحيلة فالرحمة تصنع المعجزات حين نتكافل ويكمٍّل بعضنا نقص الآخر.
رحم الله الإمام الشافعي الذي قال :
نعيـب زماننـا والعيـب فيـنـا
ومـال زماننـا عـيـب سـوانـا
ونهجو ذا الزمـان بغيـر ذنـب
ولـو نطـق الزمـان لنـا هجانـا
وليس الذئب يأكـل لحـم ذئـب
ويأكـل بعضنـا بـعـض عيـانـا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى