ليكن القضاء اللبناني عنوان مرحلة النهوض والتعافي…
} أحمد بهجة*
في أواخر شهر تشرين الثاني الماضي زار لبنان مساعد أمين عام الأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان أوليفييه دو شوتر، وأعدّ تقريراً وصف فيه المشكلة المالية في لبنان بأنها «جريمة ضدّ الإنسانية» خاصة لجهة خسارة المودعين لأموالهم، والفساد المستشري في الإدارات والمؤسسات العامة، والأهمّ من ذلك كله الفساد الضارب في المستوى السياسي، وهنا مكمن العلة الأساسي، لأنّ الفساد السياسي هو المسبّب والمُسهّل لأيّ فساد آخر، وهو المانع لأيّ محاسبة أو مساءلة طالما أنّ الفاسدين محميّون سياسياً.
وبالأمس نشرت الصحف تقريراً قالت إنه دولي يُصنِّف نوعية الحياة في العاصمة بيروت على أنها بين الأسوأ عالمياً، وقد رصد التقرير الآثار الكارثية للانحدار الاستثنائي بأرقامه وسرعته الذي يضرب المؤشرات الرئيسية المعتمَدة في قياس نوعية الحياة في لبنان، ليخلص إلى تصنيف بيروت في المرتبة 240، أيّ قبل الأخيرة بمرتبتين فقط، وذلك بفعل النتائج المترتبة على التدهور المشهود للقدرة الشرائية وكلفة المعيشة ومعدّل الأسعار كنسبة من المداخيل، ربطاً بالانهيارات المتواصلة للعملة الوطنية.
واليوم يصل إلى لبنان وفد قضائي أوروبي، من ثلاث دول هي فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ، في مهمة تستمرّ حتى العشرين من كانون الثاني الحالي عنوانها الأساسي «إجراء تحقيقات حول ثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وقضية شركة «فوري» التي يملكها شقيقه رجا سلامة والتي كانت السبب الأساس وراء الاشتباه في ضلوع الأخوين سلامة وعدد من معاوني «الحاكم» وحاشيته في جرائم مالية مرتكَبة في لبنان وعلى الأراضي الأوروبية، عمليات اختلاس وتبييض أموال وإثراء غير مشروع، وذلك لوضع هذا الملف على السكة الصحيحة التي توصله إلى الخواتيم المرجوّة.
وإذا كان هناك معلومات تفيد بأنّ البعثة القضائية الأوروبية لن يقتصر عملها على ملف مصرف لبنان بل ربما يتوسّع ليشمل قضايا أخرى كقضية انفجار مرفأ بيروت والموقوفين ظلماً في هذا الملف، فإنّ المؤكد أنّ الوفد سيبدأ عمله اليوم أو غداً في قصر العدل في بيروت بعدما أصبحت الأجواء مهيّأة لذلك نتيجة توافق حصل مع القضاء اللبناني بهدف التعاون وتسهيل مهمة الوفد الأوروبي، خاصة أنّ عمل الوفد ينطلق من التحقيق في جرائم مرتكَبة على الأراضي الأوروبية وتحديداً في الدول الثلاث التي ينتمي إليها أعضاء الوفد، وبالتالي فإنّ تعاون القضاء اللبناني في هذا المجال سوف يساعد بالتأكيد على كشف الكثير من الخبايا والخفايا داخل مغارة الفساد العميقة جداً في لبنان، والتي لا بدّ أخيراً أن يدخلها الضوء، لتصبح الملفات المخبّأة فيها متاحة أمام الجميع، ثم لإعادة الحقوق إلى أصحابها، خاصة أموال المودعين، ولو تطلّب هذا الأمر بعض الوقت.
أمام هذه الوقائع التي لا علاقة لها بالسياسة الداخلية ومماحكاتها وزواريبها الضيقة، يأمل اللبنانيون جميعاً في أيّ موقع كانوا أن يتوصّل هذا التعاون القضائي اللبناني مع أوروبا إلى النتائج المطلوبة من حيث كشف المتورّطين بقضايا فساد وتبييض وتهريب أموال وتكديس ثروات طائلة بينما كان اللبنانيون يفقدون مدّخراتهم وودائعهم وجنى أعمارهم ويزدادون فقراً وتصل غالبيتهم الكبرى إلى مرحلة الحاجة والعوَز.
هذا الأمل بالمرحلة القضائية الجديدة يجب أن يرافقه تحمّل المسؤولية، وإذا كان الأوروبيون حريصين على تطبيق القوانين في بلدانهم، ويرسلون من أجل ذلك الوفود القضائية إلى الخارج لاستكمال التحقيقات في قضايا وجرائم مالية مرتكَبة على أراضيهم، فإنّ الأوْلى بنا نحن اللبنانيين أن نخرج من عباءات الطوائف والمذاهب ونسير بعيون مفتوحة إلى الرحاب الوطنية، وأن نصرّ على إبعاد القضاء اللبناني عن كلّ التأثيرات السياسية والطائفية والمذهبية، لكي ينطلق في كلّ الملفات سواء النائمة في الأدراج منذ زمن أو المستجدة في السنوات الثلاث الأخيرة، من أجل استكمالها والبتّ بها وتمكين أصحاب الحقوق من استعادة حقوقهم… وليكن القضاء اللبناني هو العنوان الأول لمرحلة النهوض والتعافي في المستقبل القريب.
*خبير اقتصادي ومالي