حرية الإعلام بين المسؤولية والتفلت
} المحامي سلمان أحمد بركات
تعتبر حرية التعبير من أساسيات حقوق الإنسان، وإحدى ركائز الديمقراطية وقد كافحت الشعوب والأمم كثيراً عبر التاريخ لتكريس هذا الحق ضمن الحقوق التي كرّستها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
في ظلّ ما يحصل في لبنان من تجاوز بعض الإعلاميين، وبعض وسائل الإعلام للضوابط المهنية، والتشهير بالغير، وبث الأخبار غير الصحيحة، لا بدّ من التساؤل، هل يجوز أن تكون حرية التعبير مطلقة؟ أم يقتضي الأمر الإتزان في معرض ممارسة هذه الحرية، بما يضمن حقوق الآخرين وحرياتهم، والحفاظ على النظام العام؟
قبل الإجابة على ذلك، لا بدّ من الولوج من مدخل عن النصوص التشريعية التي تضمن وتحمي حرية الرأي والتعبير، وصولاً إلى الضوابط الواجب الالتزام بها أثناء ممارستها.
أولاًــ النصوص التشريعية التي تضمن وتحمي حرية الرأي والتعبير:
كرّس الدستور اللبناني حرية الرأي والتعبير في العديد من نصوصه، فالفقرة (ج) من مقدمته نصت على أنّ “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد…”
وتنص المادة الثامنة من الدستور على أنّ “الحرية الشخصية مصونة وفي حمى القانون…”
وأضافت المادة /13/ منه أنّ “حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة، وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون”.
كفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حماية هذا الحق في حرية الرأي والتعبير، وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وكفل الدستور اللبناني أيضاً ومعه المواثيق الدولية حرية الإعلام، باعتبارها من المبادئ المرتبطة بحرية الرأي والتعبير، ولارتباطها بشكل وثيق بحرية المجتمع وأسسه الديمقراطية.
لكن الحرية الإعلامية ليست حرية مطلقة، بل هي كأي حرية أخرى، وضعت لها ضوابط وقواعد، لا يجوز تجاوزها، بحيث لا يجوز أن تنال من كرامة الآخرين وسمعهتهم، وأن لا تمسّ الأمن القومي والنظام العام والصحة العامة والآدراب العامة.
يستتبع ذلك أن تكون الحرية الإعلامية مسؤولة، فالحرية بمعزل عن المسؤولية تؤول ضرباً من الفوضى والغوغائية، لأنّ الحرية والمسؤولية ككفتي الميزان، متقابلتان، لا بدّ من توافرهما لتحقيق التوازن والاستقرار.
ومن المعلوم أنّ المسؤولية تحتم عدم التعدّي على الآخر والمساس بحقوقه وحرياته، والحرص على حماية الصالح الوطني، والابتعاد عن كلّ تصرف مؤذي.
وهو ما يعبّر عنه بالضوابط. فما هي هذه الضوابط؟
ثانياً ــ ضوابط الحرية الإعلامية
الضوابط التي ترعى الحرية الإعلامية هي ذاتية أخلاقية من ناحية أولى، وتشريعية من ناحية ثانية، بعضها منصوص عليه في القوانين اللبنانية الداخلية، والبعض الآخر تتضمّنه التشريعات الدولية والأممية.
1 ــ النصوص والتشريعات اللبنانية
ويمكن التعبير عنها بالضوابط الداخلية، ومنها قانون المطبوعات الصادر بتاريخ 4/9/1962 وتعديلاته، والذي نص في مادته الثانية على جريمة نشر الأخبار الكاذبة والخاطئة.
والمادة الثالثة التي عاقبت بالحبس على نشر أخبار كاذبة تؤثر سلباً على السلام العام وغيرها من الجرائم.
وأيضاً قانون البث التلفزيوني والإذاعي رقم 353 تاريخ 28/7/1994 الذي نص في مادته الثالثة على وجوب أن تلتزم المؤسسة الإعلامية بما يلي:
ــ الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني ومقتضيات العيش المشترك والوحدة الوطنية.
ــ الالتزام بعدم بث أو نقل كل ما من شأنه إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية أو الحضّ عليها أو ما يدفع بالمجتمع وخاصة بالأولاد إلى العنف الجسدي والمعنوي والإرهاب والتفرقة العنصرية أو الدينية.
ــ الالتزام بالبث الموضوعي للأخبار والأحداث وباحترامها لحق الأفراد والهيئات بالرد.
ــ الالتزام باحترام حقوق الغير الأدبية والفنية.
كما حظرت المادة الرابعة من القانون المذكور (البث الإذاعي التلفزيوني) على المؤسسات الإعلامية أن تقوم بأعمال عديدة منها:
ــ بث أيّ خبر أو برنامج أو صورة أو فيلم من شأنه تعكير السلامة العامة أو إثارة النعرات أو الشعور الطائفي أو المذهبي بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ــ التعرّض بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأسس الوفاق الوطني ووحدة البلاد وسيادة الدولة واستقلالها.
ــ الحضّ على العنف والمساس بالأخلاق والآداب العامة والنظام العام.
ــ بث أو إذاعة أيّ قدح أو ذم أو تحقير أو تشهير أو كلام كاذب بحق الأشخاص الطبيعيين والمعنويين.
ــ الحصول على أيّ مكسب مالي غير ناجم عن عمل مرتبط مباشرة أو غير مباشرة بطبيعة عملها.
هذا إضافة غلى النصوص الواردة في قانون العقوبات اللبناني الذي يعاقب على إرتكاب الجرائم المنصوص عليها في متونه، كالقدح والذم والتشهير وغير ذلك.
2 ــ النصوص والتشريعات الدولية
ويمكن وصفها بالضوابط الخارجية.
ومن هذه النصوص ما هو وارد في المادة /29/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أنه “لا يخضع أي فرد في ممارسة حقوقه وحرياته إلا للقيود التي يقرّرها القانون مستهدفاً منها، حصراً، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، والوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي.
لا يجوز في أيّ حال أن تمارس هذه الحقوق على نحو يناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها”.
وكذلك تنص المادة 19/ فقرة (3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن “تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة (2) من هذه المادة (المقصود بها الحق في حرية الرأي والتعبير) واجبات ومسؤوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
أ ــ لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
ب ــ لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
وهذا يعني أنّ حرية الرأي والتعبير يجري ضبطها بتشريعات داخلية للدول تراعي الحقوق المذكورة في النصوص المُشار إليها، والقانون اللبناني يتضمّن مثل هذه النصوص وفقاً لما أسلفنا.إضافة الى الضوابط التشريعية الأممية.
وأكثر من ذلك،
وضعت اللجنة الفرعية لحرية الإعلام والصحافة في الأمم المتحدة عام 1953 ميثاقاً دولياً للعاملين في مجال الإعلام، يقضي بإحداث التوازن بين الحرية والمسؤولية، ويطالب العاملين في جميع وسائل الإعلام والصحافة، بالسعي إلى الحقيقة في ما يبثوه من تقارير إخبارية، وألزمهم بخدمة مصالح عامة، لا منافع شخصية، والبعد عن الافتراء والقذف والتشهير المتعمّد، والاتهامات التي لا أساس لها من الصحة،
باعتبارها مخالفات مهنية جسيمة. وقد التزمت بهذه القواعد مواثيق الإعلام في معظم الدول العربية، ولبنان منها. هذا إضافة إلى إعلان اليونسكو عام 1983 عن المبادئ الدولية لأخلاقيات الصحافة، الذي تبنّى أحكام الميثاق السالف الذكر نفسها.
خلاصة القول، إنّ الحرية بكافة أنواعها، ومنها الحرية الإعلامية، وإنْ كانت قيمة ديمقراطية كبيرة، قد تقارب حدّ القداسة، لكنها ليست مطلقة غير مقيّدة، لأنّ إطلاقها يبعدها غالباً عن مقاصدها.
وينبغي على المؤسسات الإعلامية اللبنانية الالتزام بالقواعد والضوابط القانونية والمهنية والأخلاقية التي صارت الإشارة إليها أعلاه، وخروج بعض تلك المؤسسات عن ذلك يجعلها ترتكب مخالفات مهنية وجرائم جزائية لا سيما عند ارتكابها أفعال القدح والذم والتشهير وإثارة النعرات الطائفية والتحريض وتهديد السلم الأهلي، وترويج البرامج التي تهدّد القيَم الإنسانية وتعمل على تدميرها.
الإعلام رسالة وقيمة، وسلطة موجهة، هدفها خير المجتمع وصلاحه، لا بث وزرع الفتن بين أبنائه، أو إغراقه بمفاهيم لا إنسانية.