كنتُ في سورية (2)
} د. فخري مشكور
قلت في الحلقة السابقة أنني توصلت الى نتيجة انّ النظام السوري لا يحاسب الناس على الانتقاد اللفظي ولا يحبس الأنفاس ولا يحصيها على الناس، لكنه يقف موقفاً حازماً من ايّ نشاط يهدّد النظام (وأرجو من أيّ مطّلع ان يتفضّل عليّ بذكر اسم الحاكم الذي لا يكترث بما يهدّد نظامه).
وقلتُ إنني قرّرت أن أختبر بنفسي الحرية الكلامية التي يمكنني أن أمارسها، والى أيّ مدى تصل فعملت ما يلي:
كتبت مقالاً بعنوان «روح العصر» وهو مقال لاذع من النقد الساخر ونشرته في الانترنت في موقع كتابات (وكان يومها موقعاً جامعاً لكثير من الكتاب العراقيين والعرب) هذا نصّه:
«عندما طلبت من سائق سيارة الأجرة أن يوصلني الى المكتبة العامة اكتشفت انّ عدّاد الأجرة لا يعمل؛ مما يترك المجال مفتوحاً للسائق لتحديد الأجرة بكلّ عدالة! ولتوضيح سبب عدم إصلاحه قال لي ـ بعد ان نفث بوجهي دخان سيكارته ـ انّ شرطة المرور في هذه المنطقة هم من معارفه.
بعد دقائق من السير قام بمخالفة مرورية كبيرة، قلت له:
ـ وهل الشرطة في هذه المنطقة أيضاً من معارفك؟
ـ لا تهتمّ، فقليل من الليرات تدفع الكثير من العقوبات.
وصلت الى المكتبة العامة الوحيدة في تلك العاصمة العربية العريقة التي احتضنت الحضارة العربية في غابر العصور. وجدت على الباب حرساً يمنعني من الدخول ويطالبني ببطاقة العضوية. دخلت معه في جدل فلسفي اسمه «توقـُّفُ الشيء على نفسه»، فبطاقة العضوية لا تصدر إلا من الداخل، والدخول مستحيل بدون بطاقة!
بعد جدل بيزنطي تمكنت من إقناعه بوضع جواز سفري أمام سيادته كضمان لعدم اختبائي داخل المكتبة قبل التشرّف بمقابلة المدير المسؤول علـّي أحظى بشرف العضوية الذي يؤهّلني لمطالعة الكتب الموجودة في هذه المكتبة داخل قاعاتها فقط، فالاستعارة الخارجية ممنوعة.
قبل الدخول الى البناء الأصلي واجهتني لوحة الممنوعات في هذه المكتبة:
– إدخال الكتب من خارج المكتبة ممنوع
– إدخال دفاتر لتدوين الملاحظات ممنوع
– إدخال أوراق مصورة ممنوع
– إدخال حقيبة ممنوع
– الأكل والشرب ممنوع
– ……
– ……
وقبل أن أمدّ يدي الى كاميرتي لأصوّر قائمة الممنوعات هذه وصلت الى جملة: التصوير ممنوع.
سلّمت أمري لله وقرّرت ـ حفاظاً على كرامتي ـ ان أتقيّد تقيّداً كاملاً بالتعليمات. دلفت الى الصالة في الطابق الأرضي لأجتازها الى المصاعد فاستوقفني حاجز بدا لي كأنه معرض لبيع ملابس لكثرة المعاطف والقمصان والبلوزات المعلقة فيه، وبسرعة زال عجبي عندما أخبرني الموظف المسؤول بأنّ ارتداء الملابس الفضفاضة ممنوع، ومدّ يده الشريفة وأشار الى الملابس التي يتعيّن عليّ خلعها ليعلقها مع الملابس الكثيرة التي توهّمت في البداية أنها معروضة للبيع.
لا مفر من تطبيق التعليمات وتجنب الممنوعات..بدأت بخلع الملابس الممنوعة… يا إلهي هل دخلت الى مكتبة؟ أم إلى حمـّام؟
استلمت إيصالاً بملابسي الفضفاضة، والإيصال عبارة عن قطعة خشبية بحجم البوسكارت، وضعتها بكلّ أدب في جيب البنطلون ـ الذي لم يكن لحسن الحظ فضفاضاً ـ وتقدّمت للحاجز الثاني…
على الحاجز الثاني تفحّصوا ما احمله في يدي ولم يكن غير الحاسوب المحمول، الذي أخبروني بأنه ممنوع! وعليّ ان أسلمه وأتسلّم بدله إيصالاً خشبياً آخر بنفس الحجم وضعته في الجيب الآخر للبنطلون.
قلت لهم: ولكني أحتاج الحاسوب لبحثي أثناء القراءة، فقالوا:
ـ في هذه الحالة عليك الحصول على تصريح خاص من المدير يمنحك الحق باصطحاب حاسوبك.
ـ وإذا حصلت عليه لا توجد مشكلة أخرى؟
ـ في هذه الحالة تستطيع ان تأخذ الجهاز وحده منزوعاً من حقيبته،
– والحقيبة؟
– تضعها هنا وتستلم بدلها إيصالاً خشبياً.
أطعت الأنظمة وتركت الحاسوب في قسم الممنوعات وتوجهت الى غرفة المدير حيث طلبت منه ان يمنحني بطاقة العضوية لأتمكن من دخول المكتبة لغرض المطالعة… رحّب بي وسألني بعض الأسئلة للتأكد من «لياقتي» لدخول هذا المكان! ثم أعطاني رسالة الى مسؤول البطاقات يخبره فيها بعدم وجود مانع من حصولي على العضوية «حسب الأصول».
تبيّن لي لاحقاً انّ «الأصول» تقتضي التحقق من هوية صاحب الطلب وتقديمه صورة شخصية ورسماً نقدياً، وبعد شهرين (فقط) تصدر البطاقة!
قلت له: يا حبيبي بعد شهرين سأكون في بلد آخر مستهتر بكتبه وثقافته ولا يحرص عليهما كحرصكم، فماذا أفعل لأدخل اليوم الى مكتبتكم العتيدة؟
نصحني بالتظلم أمام مدير الإعارة لأحصل منه على استثناء خاص.
كان مدير الإعارة لطيفاً جداً معي فبعد التأكد من هويتي وبعد معرفة «الهدف الحقيقي» من دخولي المكتبة، منحني تصريحاً بدخول القاعة الأولى فقط ولمدة 3 أيام، على أن أسلّم جواز سفري لمسؤول القاعة يحتفظ به طيلة فترة تواجدي فيها (الأعضاء يسلّمون بطاقات العضوية للاحتفاظ بها ليكون مسؤل القاعة دائماً على علم بشخصيات الذين يطالعون في قاعته، وأسماء الكتب التي يقرأونها).
خلال المطالعة احتجت لمصدر هو عبارة عن كرّاس صغير فيه قصيدة لشاعر فلسطيني مسيحي يمدح فيها النبي محمد، وكانت التعليمات تقضي بملء استمارة طلب استعارة يبعثه مسؤول القاعة الى مخزن الكتب (الموجود تحت الأرض) ليرسلوا الكتاب بيد موظف أمين بعد فترة ما ان انقضت حتى جاء الجواب بأنّ مطالعة هذا الكتاب ممنوع!
سألت الموظف (بخبث): كم هي نسبة الأمية في بلادكم؟
أجاب بكلّ بساطة: لا أعلم.
قرّرت ان أصحّح خطأي، غادرت قاعة المطالعة الى البهو ورميت نفسي على كنبة معدة للاستراحة ريثما يهدأ الدوار الذي أصابني، ولم أشعر إلا بالموظف يناديني قائلاً: انّ الجلوس على هذه الكنبة لأكثر من عشر دقائق ممنوع.
استعدت جواز سفري وحاسوبي وملابسي الفضفاضة ووليت هارباً قبل الظهر، فواجهتني لوحة كبيرة في الشارع تقول:
نواجه التحديات بروح العصر.
انتهت المقالة.
انتظرت بعد نشرها بضعة أيام فلم يحدث شيء، فقرّرت المضيّ بالتجربة الى أقصاها… طبعت المقالة على ورقة ووضعت تحتها اسمي ورقم تلفوني ثم ذهبت الى مكتبة الأسد وأعطيتها الى مكتب المدير العام للمكتبة وطلبت من السكرتيرة ان تعطيها للمدير العام. استملتها السكرتيرة ووعدتني ان تعطيه إياها،
وخرجت دون أن أطلب شيئاً.
بعد ساعة تقريباً اتصلت بي السكرتيرة تلفونياً وقالت لي:
ـ المدير يحب ان يراك فمتى يمكنك أن تاتي؟
ـ بعد نصف ساعة
وفعلاً وصلت بعد نصف ساعة ودخلت على السكرتيرة فوجدت على ثغرها ابتسامة عريضة كأنها ضحكة تكتمها بصعوبة.
ردّت عليّ التحية وطلبت مني الجلوس لحظة ودخلت على الفور الى المدير وخرجت بنفس اللحظة قائلةَ: تفضل أدخل،
دخلت فوجدت ابتسامة مشابهة على وجه المدير وقام لي فصافحني بحرارة وجلسنا وكأننا أصدقاء وتبسّطنا بالحديث بانشراح وارتياح شجعني على مزيد من (الشقاوة)، كان يستمع لي بسرور وثقة ولما أفرغت ما في جعبتي من نقد واعتراض قال لي:
ـ حسناً، دعني أوضح لك سبب الإشكالات التي حصلت معك في المكتبة…
وتحدث عن أسباب تلك الإشكالات واحدة واحدة واستمعت له الى الأخير، ثم جاء دوري للردّ على تبريراته،
واستمع لي أيضاً ثم شرح لي انّ الأمر يختلف بين المكتبات العامة والمكتبة الوطنية، وانّ المكتبة الوطنية لا يمكن ان تعوّض ما تفقده كما تفعل المكتبات العامة،
ثم توسعت في النقد فقلت له:
ـ قدّمت طلب إجازة طبع كتابين الى الرقابة وقد مضى أكثر من عام ولم أحصل على إجازة الطبع،
فقال لي على الفور:
ـ أعطني ايّ كتاب تريد طبعه وأنا أعطيك الإجازة خلال أيام.
انتهى اللقاء وقد أصبحنا أصدقاء ولم يزرني تلك الليلة أحد من زوّار الفجر ليثني (..) على مقالي (روح العصر) فعرفت انّ القيود التي تفرضها سورية على الحريات ليست أكثر منها في الدول الخيلجية التي دعمت التحوّل الديمقراطي (..) في سورية بالتعاون مع أميركا وبريطانيا وفرنسا ضمن 110 دولة فتحت على سورية حنفية الوحوش المسلحة بين 2011-2021.
***
المقال المقبل: بوادر الأحداث الدامية عام 2011.