الجغرافيا السياسية للفراغ
ناصر قنديل
ــ انتهت ولاية الرئيس اميل لحود ولبنان والمنطقة تحت ضغط تداعيات توازن قوى إقليمي دولي سلبي ناتج عن ثنائية الفشل الأميركي في حرب العراق 2003 وحرب تموز 2006، مقابل انتصارات سلبية لمحور المقاومة. وكان ما يشهده لبنان من انقسام سياسي وشعبي حاد تعبيراً عن هذا التوازن السلبي بعد سنوات التوازن التي أنشأها انتصار المقاومة في تحرير الجنوب عام 2000 مع بداية حروب المحافظين الجدد في آسيا انطلاقاً من أفغانستان عام 2001 والعراق 2003، وكانت عملية الاختبار لموازين القوى حول انعكاس هذه الموازين على لبنان في ظل الاستقطاب الحاد المخيم على المنطقة والممتد إلى الداخل اللبناني، في قرارات حكومة الرئيس فؤاد السنيورة باستهداف شبكات اتصال المقاومة في 5 أيار 2008، وكان ردّ الفعل عليها في 7 أيار كفيلاً بفتح الطريق لتسوية في منتصف الطريق رئاسياً مثلها انتخاب الرئيس ميشال سليمان بالتوازي مع إقرار قانون انتخابات على أساس القضاء تحقيقاً لطلب التيار الوطني الحر، والتسليم بنيل حزب الله وحلفائه الثلث المعطل في أي حكومة تسليماً بطلب ثنائي حزب الله وحركة أمل، في ظل أغلبية نيابية مناوئة لحزب الله.
ــ عندما نتحدّث عن الإطار الإقليمي والدولي للاستحقاق الرئاسي، أي عن الجغرافيا السياسية للرئاسة، فنحن لا نتحدّث عن فرضية تفاهمات دولية إقليمية تشبه ما كان يجري قبل اتفاق الطائف يأتي باسم رئيس من المجهول، فهذا الزمن قد ولّى مع صعود المقاومة كلاعب محلي واقليمي يملك قراره المستقل، ولا توجد مرجعية اقليمية أو دولية تفاوض بالنيابة عنه. وبالمقابل لا نتحدّث عن تكرار ما كان قائماً بعد الطائف حتى عام 2005 وعودة القوات السورية إلى بلادها، حيث كانت فترة الإدارة السورية للملف اللبناني بتفويض أميركي سعودي تتضمن تسمية رئيس الجمهورية، انطلاقاً من مشاورات تجريها القيادة السورية مع القوى اللبنانية تبني على خلاصتها اختياراً يلبي قراءتها للمشهد الدولي والإقليمي، ويواكب بأعلى درجة متاحة التوازنات اللبنانية الداخلية، ومثلما كان الرئيس الياس سركيس آخر رؤساء الوحي الخارجي، وكان الرئيس أمين الجميل آخر رؤساء السطوة الغربية الناتجة عن الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، كان الرئيس لحود والتمديد لولايته آخر رؤساء مرحلة الإدارة السورية لما بعد الطائف، كان الرئيس ميشال سليمان رئيس التوازن السلبي الذي رافق تحولات المعركة الكبرى على المنطقة في ظل ما عُرف بالربيع العربي، أو الحرب الناعمة الأميركية التي شكلت سورية ساحتها الرئيسية في النزال الكبير بين محور المقاومة والمشروع الأميركي.
ــ الفراغ الذي خيّم على الرئاسة مع نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، لم يكن بانتظار حدوث تفاهم اقليمي دولي على اسم الرئيس، ولا بانتظار تفاهم داخلي، يملك فيه حزب الله وحلفاؤه قرارهم، لكن خصومهم لن يأتوا إليهم للتوافق على اسم الرئيس وهم يقرأون موازين المنطقة في كتاب الرهان على نجاح الخطة الأميركية للحرب على سورية وصرف نتائجها الرئاسية لبنانياً، بخلفية التشاور والتنسيق مع المراجع الدولية والإقليمية التي تقود هذه الحرب، مع إدراك داخلي وخارجي منذ انكسارات داعش في العراق وسورية عام 2015 أن سقف المتاح هو توازن ينتج تسوية، لا هزيمة لمحور المقاومة تنتج انتصاراً رئاسياً عليها. وهذا معنى التسليم بأن ترشيح سمير جعجع صار بلا معنى عام 2014، رغم امتلاك قوى 14 آذار للأغلبية النيابية. وهذا بالمقابل معنى إدراك حزب الله رغم وضع نيابي مختلّ بعكس توجهاته، والمخاطرة بالانفصال في التوجه الرئاسي عن الحليف الرئيسي للحزب الذي تمثله حركة أمل ورئيسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، بأن فرصة الفوز بوصول العماد ميشال عون الذي ترشح للرئاسة، وقرّر حزب الله الوقوف وراءه حتى الفوز بها، بخلاف انتخابات 2008، وهذا الإدراك نابع من السيطرة على التطورات التي تتدحرج لصالح محور المقاومة وفي قلبه سورية، ولم يكن بعيداً عن هذه الحسابات، ولا كان بعيداً كل ذلك عن تغير الحسابات الرئاسية للخصوم، دون توافر فرص تسويات دولية وإقليمية حول الرئاسة. فيصير ترشيح سليمان فرنجية كبديل تسووي يقبله حزب الله، بدعم سعودي فرنسي وعدم ممانعة أميركية وتبنٍّ معلن من تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري تعبيراً عن تلك الجغرافيا السياسية للرئاسة، وما كاد صيف العام 2015 يحمل إعلان التفاهم النووي مع ايران، حتى تتغير الحسابات والاصطفافات دون توقع تفاهمات دولية واقليمية حول الرئاسة، وعندما بدأت نهاية العام 2015 ما عرف بعاصفة السوخوي بعد التموضع النوعي لروسيا عسكرياً في الحرب، كانت التحولات تتزاحم لصالح القبول بترشيح العماد ميشال عون من خصوم حزب الله وتصاغ لها نظريات من نوع الحاجة لرئيس يستطيع طمأنة حزب الله لوضع البحث بالسلاح على الطاولة، ويسوق كتبرير للتراجع أمام الخيار الرئاسي لحزب الله.
ــ التوازن النيابي القائم اليوم أفضل بنظر حزب الله مما كان عليه عام 2016، فليست هناك غالبية نيابية بيد الخصوم، والتوازن الدولي والإقليمي ذاهب نحو نصر جديد لجبهة مواجهة الهيمنة الأميركية في العالم على جبهات روسيا والصين وإيران، فليس من سبب يدعو للقبول بتكرار غير مرغوب لتجربة الرئيس ميشال سليمان، ومثلما كان دعم ترشيح العماد ميشال عون يفرض المخاطرة بخسارة الشراكة في الرئاسة مع الحليف الرئيسي الذي يمثله الرئيس بري وحركة أمل، ولو استمر حتى الانتخاب كما حصل فعلاً، فإن الخلاف مع التيار الوطني حول الموقف من ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية يقابله دعم بري بحماس للترشيح، ما ينتج توازناً في التجربتين من هذه الزاوية، لكن الخصوم الذين يتحدثون عن الظروف الإقليمية والدولية، ويتعمّدون تسويقها بلغة انتظار تفاهمات ايرانية اميركية، ايرانية سعودية، بخلفية تصوير حزب الله مجرد تتمة تكميلية لما يجري مع إيران، لكنهم يعلمون أن الأمر خلاف ذلك، وما يقصدونه هو قياس موازين القوى، وسط تقديرات بنيت على أوهام نتائج الأحداث التي تشهدها ايران تعم الغرب والخليج وحلفاءهما في المنطقة ومنها لبنان، بأن الدولة الإيرانية تتراجع وسوف تتراجع قوتها وهيبتها أكثر، وهم يعلمون أنه عندما يحسم الغرب رهاناته بالفشل سيقدم على العودة الى التفاهم النووي مع إيران. والعودة هنا اشارة للحسابات وليست آلية تفاوض دولي اقليمي على الرئيس، وليس الرهان على هزيمة روسية في أوكرانيا ببعيد عن حسابات ستؤثر على الأقل على قوة ايران وتماسك نتائج الحرب في سورية. وهذا أصلاً سر التمسك الأميركي بالبقاء في سورية والسعي لتخريب المسار التركي السوري، بانتظار ان تنجلي الصورة في حرب أوكرانيا عن اتجاه واضح. واللبنانيون الذي يقرأون في كتاب الغرب والخليج، يفضلون البقاء في الفراغ حتى يروا الإشارات التي تقول بأن المشهد الإقليمي والدولي عاد الى توازنات 2016، وربما بصورة أكثر ثباتا كما يتوقع حزب الله من نتائج المشهد الإيراني والمشهد الأوكراني والمسار السوري التركي، عندها سيصير السير بسليمان فرنجية بتبريرات تشبه تلك التي رافقت السير بالعماد ميشال عون، وكما قال سمير جعجع يومها إنه قطع الطريق على سليمان فرنجية بتبني ترشيح العماد عون، سيقول إنه قطع الطريق على جبران باسيل بتبني ترشيح فرنجية، وسيقول الذين رشحوا فرنجية بديلاً لعون، إنهم أصلاً قاموا بترشيح فرنجية ولا مشكلة لديهم معه، وبدلاً من أن يكون قبول التيار الوطني الحر بترشيح فرنجية، مقدّمة لسير الخصوم به، سيكون إما على خلفية السير بتوافق وطني شامل على مفهوم السلة التي اقترحها الرئيس بري كشرط للسير بعون، أو بالتصويت بورقة بيضاء، كما فعل بري يومها في النهاية.