الوطن

كنتُ في سورية (3)

‭}‬ د. فخري مشكور
كان يوم جمعة عندما خرجتُ من بيتي في درعا مبكّراً لشراء بعض الخضار والفواكه.
كانت الدكاكين مغلقة لأنّ أكثر الناس وأكثر الباعة (وحتى الدولة) نائمون؛ وهي فرصة استثمرها الباعة المتجوّلون فاندفعوا بعرباتهم الى محيط الدكاكين وتوغّلوا فيه الى مكانٍ لم يكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس لو كانت الدكاكين مفتوحة وفيها أصحابها الذي يعتبرون المساحة التي تحيط بدكاكينهم (منطقةً اقتصاديةً خالصةً) لهم محرّمةً على منافسيهم من الباعة المتجوّلين أصحاب العربات. ولولا الخوف من الدولة لقام أصحاب الدكاكين بنصب سياج من الأسلاك الشائكة ولزرعوا الألغام في (منطقتهم الاقتصادية الخالصة) مع فتح (ممرٍّ آمنٍ للمدنيين) الذي يرغبون بالشراء من الدكاكين حصراً… أمّا وقد نام أصحاب الدكاكين ونامت الدولة فقد سارع أصحاب العربات الى ملء هذا (الفراغ الأمني) بعرباتهم ليبيعوا ـ على عجل ـ بضاعتهم الرخيصة من التين والزيتون، والكوسى والباذنجان، والخوخ والرمّان لـ (الفقراء الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) والذين يبكّرون لشرائها في غفلة من أصحاب الدكاكين (الأغنياء الذين يحسبهم الجاهل فقراء من التقشف).
سارت عملية التسوّق بصورة سلسة لم تعكّرها أية (خروقات أمنية)، وفجأةً دخل (المنطقة الاقتصادية الخالصة) مكروباص قادم من إحدى القرى وتوقّف لإنزال ركابه في هذه المنطقة الحرة (وليس في الكراج) ليتفادى دفع رسوم الدخول الى الكراج الرسمي، فالذكاء الذي يولّده نوم الدولة ونوم أصحاب الدكاكين ليس مقتصراً على أصحاب العربات بل يشمل أيضاً أصحاب المكروباصات.
قبل أن يكتمل نزول الركاب حدثت جلبة ما لبثت أن ارتفعت الأصوات ثم اندلع اشتباك بالأيدي فدبّت الفوضى في (المنطقة الحرة) وتراكض الناس في اتجاهين متساويين في المقدار متعاكسين في الاتجاه:
ـ بعض الناس سارعوا الى الركض للخروج من (المنطقة الحرة)، كما سارع معهم (وبنفس الاتجاه) بعض الباعة الى (الانسحاب التكتيكي) من (ميدان القتال) كمن يريد ان ينجو من كارثة وشيكة الوقوع.
ـ والبعض الأخر سارع ـ عكس الاتجاه ـ للدخول الى (ميدان القتال) للمساهمة بفض الاشتباك وحصره في المنطقة قبل ان يمتدّ الى إقليم السوق فتستيقظ الدولة وتبعث (قوات حفظ سلام) الى السوق.
لم أركض مع الراكضين، لأني لم أفعلها ولا مرة في حياتي، لكنّ شغف المعرفة أمرني أن أبقى لأعرف ما الذي حدث؟ ولماذا حدث؟ وماذا سيحدث؟ في موقف استشرافي للمستقبل نفعني كثيراً في أحداث لاحقة.
وتذكرت موقف ابن نوح الذي حاول النجاة من الغرق فقرّر أن يأوي الى جبل يعصمه من الماء، وبادرت الى الوقوف على رصيف مرتفع يعصمني من اللكمات ويتيح لي التفرّج من علوّ كلّ التحركات التي تحصل في (كامل الإقليم).
بسرعة ظهر انّ سببَ الاشتباك خلافٌ على الأجرة، لكني ـ بفضل عيني الدوّارة كالرادار ترصد كلّ ما يتحرك ـ لمحتُ أحد الباعة المتجوّلين يتخلى عن قبض الثمن من المشتري مسامحاً إياه بالمبلغ، ثم يمد يده الى أسفل عربته وينحني قليلاً (لكي لا يراه أحد) ثم يستخرج جهاز إرسال حديث تكلّم فيه بسرعة ثم أعاده الى مخبئه أسفل العربة وبقي في مكانه يتفرّج دون ان يفعل شيئاً.
بعد دقائق من المكالمة اللاسلكية حضرت الشرطة وفضّت الاشتباك وفرضت النظام دون خسائر في الأرواح او الممتلكات ثم انسحبت دون اعتقال أحد.
هنا عرفت أنّ الدولة ليست نائمة، لكني أنا النائم عن يقظة الدولة.
وعرفت أيضاً سبب ركض الناس في اتجاهين متساويين في المقدار متعاكسين في الاتجاه:
ـ فالراكضون من المركز الى المحيط يعلمون انّ الدولة ليست نائمة، وانها قد تحضر لمحاسبة المخالفين.
ـ أما الراكضون من المحيط الى المركز فلم يفعلوا شيئاً تحاسبُ الدولةُ عليه فقاموا بواجبهم الإنساني في التدخل (لفصل القوات) وهي شيمة السوريين المحبّين للسلام منذ ان خلق الله أول سوري من نسل آدم وحواء قبل أن تدخل الى سورية (من تركيا) قطعان الوحوش المفترسة وأكلة لحوم البشر لنشر الديمقراطية!
***
لكني ـ بعد مدة ـ اعتقدت مرة أخرى انّ الدولة نائمة وذلك بعد سنوات من المشي بين الناس بعينٍ رادار، وفضولِ باحثٍ، ودقّةِ محلّل ورصدت ظواهر كانت تبدو طبيعية لكثيرين، لكني نظرت إليها بعين الشك… رصدت مثلاً أنه قد:
ـ زاد إقبال الشباب على المساجد،
ـ اختفت الشوارب وظهرت اللحى،
ـ طالت اللحى وقصرت الدشاديش،
ـ انتشرت تسجيلات القرآن في الأماكن العامة كسيارات الأجرة والدكاكين.
ـ زاد الإقبال على كتب ابن تيمية.
كانت أغلب هذه الظواهر تفرحني لأنني متديّن أصوم وأصلي وأقرأ القرآن منذ نعومة أظفاري، ومنذ أن بلغتُ سنّ الرشد لم (أشرب الخمر) ولم أمارس (السرقة) ولا (القتل) ولا (الزنا) ولا (اللواط) و(لم أشترك في معارضة ترعاها أميركا)، ولم (أشارك في حكومة تدعمها أميركا).
لكني كنت حائراً في تفسير هذه الطفرة في الالتزام الديني والتي تزامنت مع:
ـ انتشار القصور الشاهقة التي يبنيها سوريون عائدون من الخليج،
ـ انتشار صلاة الجماعة بين الشباب في البيوت،
ـ بداية نضح الأفكار الوهابية مثل النهي عن قول (يا محمد)، باعتباره شركاً! لأنه دعاء غير الله! (قال أحد الشيوخ لشخص: أعطيك 100 دولار شهرياً إذا تركت قول يا محمد، فأجابه: اعطني 200 وأترك قول يا الله).
ثم توسعت (ظاهرة التديّن!) حتى صارت محاضرات دينية في البيوت!
وانتشر الفكر الوهابي وبدأت تظهر معالم التكفير.
لاحقاً بدأت القنوات الوهابية تبثّ تكفير الشيعة وكانت قناة “وصال” هي الطليعة،
ولكي تلاقي هذه الموجةُ التكفيريةُ موجةً مقابلةً تنمّيها وتزكّيها، فقد أسس (التشيع اللندني) قناة (فدك) وصار يبث على نفس النغمة.
ولكي يشتعل أوار الفتنة الطائفية لا بدّ من عرعور (يعرعر) من (قناة وصال) وسرسري (يسرسر) من قناة فدك.
حدثت أول مواجهة لي مع الموجة الوهابية مبكراً في درعا، فقد جمعتني جلسة في بيت أحد الاصدقاء حضرها الكثير من أقربائه.
وحضر شخص عابس الوجه مقطّب الجبين مكفهرّ الملامح كأنما أغشي وجهه قِطَعاً من الليل مظلماً… وكان يلاحظ احتفاء الحاضرين بي باعتباري طبيباً عراقياً صديقاً حميماً للعائلة وينظر لي شزراً ويتحيّن فرصة ليقول شيئاً.
بمجرد ان حانت الفرصة توجه الى بالسؤال التالي:
ـ سمعت أنك شيعي، هل هذا صحيح؟
ـ نعم صحيح.
ـ هل لي ان أسالك سؤالاً؟
ـ تفضل،
ـ لماذا يسبُّ الشيعةُ الصحابة؟
ـ السبّ ليس من أخلاقنا لكنك قد ترى جاهلاً يسبّ من لا يعجبه.
ـ لكن الشيعة يسبّون الصحابة،
من قال لك؟
ـ أنا سمعت بنفسي شيعياً يسبّ الصحابة،
ـ وأنا سمعت بنفسي سنّيّاً يسبّ الله،
فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الوهابيين.
***
كانت تلك المظاهر الدينية الوهابية تنتشر في سورية كمقدمات للخطة الجهنمية التي تهدف الى تكرار (السيناريو الأميركي الخليجي) بإخراج السوفيات من أفغانستان وتجنيد شباب المسلمين (ليقاتلوا الاتحاد السوفياتي) نيابةً عن الجنود الأميركان، و(بتمويل الخليج لتلك الحرب) نيابةً عن الأميركان.
عرفت لاحقاً انّ تلك الموجة الدينية الوهابية في سورية كانت مقدّمة ضرورية لإعادة سيناريو أفغانستان على الأراضي السورية، الأمر الذي لم أدركه إلا بعد اندلاع (الثورة السورية!) التي أنفقت فيها (الدكتاتوريات الوراثية) في الخليج مئات مليارات الدولارات من أجل نشر الديمقراطية (…) في سورية (كما صرّح بذلك علناً الشيخ حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري وقتها) وأضاف ايضاً: (أننا تهاوشنا على الصيدة لكن الصيدة فلتت) وذلك في مقابلات عديدة وصريحة أنصح كل قارئ بمراجعتها على اليوتيوب.
***
في الأيام الأولى من الاحتجاجات في درعا (ولم تكن ايّ مدينة اخرى قد اشتركت في ايّ احتجاج) علا هتاف في إحدى المظاهرات يقول: (لا إيران لا حزب الله، بدنا مسلم يخاف الله)… توقفت طويلاً أمام هذا الهتاف متعجّباً حيث لم تكن إيران ولا حزب الله على دراية بما يحدث ـ وقد جاء تدخّلهما بعد سنوات ـ وقلت في نفسي:
ما علاقة إيران وحزب الله بطالب مدرسة اعتقله الأمن السوري في درعا؟
وكيف اكتشفت عائلة الطالب ـ أو حتى المتظاهرون الدرعاويون الطيبون ـ أنّ إيران وحزب الله (المشغولين بمقاتلة إسرائيل) هما سبب السلوك الأمني للنظام السوري؟
… هذا الهتاف ليس نابعاً من فراغ، والذي قاله لم ينطق عن الهوى، إنْ هو الا وحي يوحى… علّمه شديد القوى… كقوة البترودولار أو أقوى.
وبعدما كشرت الدكتاتوريات الوراثية عن أنيابها علمتُ انّ شعار (لا إيران لا حزب الله، بدنا مسلم يخاف الله) كان يريد (مسلماً يخاف الله) مثل حمد آل ثاني (…)، او محمد بن سلمان (…) ليقيم لهم (ديمقراطية المنشار) التي يجري فيها (تداول السلطة) سلمياً بـ (الوراثة من حاكم الى حاكم) وتتجسّد الديمقراطية بـ (مبايعة الشعب للحاكم) الذي (يرث السلطة والثروة والوطن والشعب) ملكاً مطلقاً من الحاكم المتوفي.
لقد أنفقت (ديمقراطيات المنشار الخليجية) 200 مليار دولار لتخريب سورية أو السيطرة عليها من أجل دمجها في مشروع استجرار الطاقة من (الديمقراطيات الوراثية) في الخليج، الى (الديمقراطيات الغربية) عن طريق سورية للاستغناء عن الطاقة الروسية والطاقة الإيرانية ولتجنّب مضيق هرمز وباب المندب اللذين ظهرت أخيراً أهميتهما للهيمنة الغربية بصعود اليمن وإيران وروسيا.
شهقت حسرةً على 200 مليار دولار أنفقتها (ديمقراطيات) الخليج الوراثية المنشارية وقلت في نفسي:
ـ لماذا لم ينفقوها على مشاريع استثمارية في سورية ليستفيدوا هم ويستفيد الشعب السوري الذي يشاركون في حصاره وتجويعه؟
وأوحي إليّ الجواب سريعاً:
[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى