حرب الدولار
} د. علي أكرم زعيتر*
نوع جديد من الحروب الهجينة بدأت الولايات المتحدة باختباره على عدد من الدول المناهضة لها، أطلق المراقبون عليه مسمّى حرب الدولار، فما حرب الدولار هذه، وإلامَ ستفضي؟
حتى الآن هناك سبع دول تعرّضت بنحو أو بآخر لشواظ هذه الحرب، هي: فنزويلا، إيران، سورية، لبنان، اليمن، روسيا، ومؤخراً العراق، ومن يدري ربما تنضمّ البرازيل مستقبلاً إلى القائمة، فيغدو أمامنا ثمان دول بدلاً من سبع.
فنزويلا
البداءة، كانت مع فنزويلا، بلد سيمون بوليفار، ذلك الماركسي الذي كرّس حياته لمناهضة الإمبريالية الغربية.
قبل سنوات، حاولت الولايات المتحدة بشتى السبل إخضاع فنزويلاً، تقريباً، منذ وصول الراحل شافيز إلى الحكم، وما رافق وصوله من تغييرات طالت نواحي الحكم كافة في البلاد، وانتقلت بها من المعسكر اليبرالي إلى المعسكر الاشتراكي البوليفاري.
نذكر آنذاك محاولة الانقلاب التي دبّرتها الاستخبارات الأميركية، والتي أطاحت بهوغو شافيز لبضعة أيام، ثم ما لبث أن عاد إلى الحكم بضغط شعبي جماهيري هائل، بعدما نجح أنصاره في إرغام الولايات المتحدة على سحب يدها من المشهد الفنزويلي.
بعد وفاة تشافيز، كان لا بدّ للولايات المتحدة أن تستكمل ما بدأته من عداوة مفرطة تجاه كلّ ما يمتّ لإرث الرجل بصلة، فراحت تؤلّب الطبقات الشعبية الفقيرة على خلفه مادورو، ولمّا لم تفلح في ذلك، أخذت تفكر جديّاً في التخطيط لحرب هجين من نوع جديد، لم يسبق لها أن استخدمتها إلا في مواضع محددة، فكان أن أطلقت العنان لسلسة من القوانين الجائرة أحادية الجانب. قوانين جعلت من الدولار حلماً يشتهيه المواطن الفنزويلي، وما هي إلا أشهر معدودة حتى وصلت فنزويلا إلى حافة الإفلاس، وبدأنا نشاهد الملايين من العملة المحلية الفنزويلية ملقاة على قارعات الطرق، بعدما فقدت قيمتها الفعلية.
فنزويلا البلد النفطي الذي تكفيه ثروته النفطية مؤونة الشتاء والصيف لأعوام طويلة مقبلة، فقدت القدرة على تأمين أبسط مستلزمات شعبها اليومية، بعدما منعت من تصدير نفطها الخام، وباتت تعاني من شح في معروض الدولار لديها.
كانت الخطة الأميركية الموضوعة تقضي بأن ترفع كاراكاس الراية البيضاء خلال فترة وجيزة، ولكن على ما يبدو كان لمادورو رأي آخر، فقد عزم الرجل على الاستعانة بصديقته البعيدة عنه جغرافيّاً (إيران).
فما كان من الأخيرة إلا لبت نداء صديقها. وهكذا عبرت البواخر الإيرانية المحمّلة بكافة المواد الغذائية الأساسية، والمستلزمات الطبية الضرورية المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي لتحط على شواطئ كاراكاس متحدية كلّ العقبات والحواجز التي وضعتها واشنطن.
فإذاً، لم يكن لأميركا ما أرادت، ففنزويلا المحاصرة، تمكنت أخيراً من التقاط أنفاسها بعدما أدركتها الجمهورية الإسلامية بالنجدة.
إيران
الحرب التي أجهدت فنزويلا، لكنها لم تقصم ظهرها، بدت نتائجها مشجعة بالنسبة لساسة البيت الأبيض، فراحوا يشحذون سكاكينهم ليجرّبوا ما اختبروه مع فنزويلا على شرطة النجدة (إيران).
إيران المحاصرة منذ سنوات طويلة، والتي تكابد وحيدة في خضمّ العواصف الأوروبية والأميركية، كانت هي الأخرى على موعد مع حرب الدولار. ويبدو أنّ الإجراءات الوقائية التي اتخذتها السلطات الإيرانية على مدى أعوام الحصار لم تكن كافية لسدّ ثغرات الاقتصاد الإيراني، فبدأ الإيرانيون يشهدون للمرة الأولى منذ انتصار ثورتهم عام 1979 انهياراً دراماتيكيّاً في قيمة عملتهم المحلية، حيث بلغت مستويات قياسية لم تعهّدها من قبل.
لم يكن بوسع قادة إيران القيام بشيء، فالانهيار يجري بوتيرة متسارعة، والحلول الترقيعية ما عادت تجدي نفعاً، فما العمل؟
أدرك الإيرانيون سريعاً أنّ الأمر يحتاج إلى شيء من الصبر والصمود، ريثما ينقشع الغمام، فأطلقوا للعلن شعارهم الجديد (الصبر الاستراتيجي). هذا الشعار لم يرق كثيراً للأميركييبن، فهو يحمل في مضامينه لغة التحدي، وهو ما لا تستسيغه واشنطن، فماذا تفعل؟
بسرعة خاطفة، عادت إلى المربع الأول، فراحت تعبث استخباراتيّاً في الداخل الإيراني، على أمل أن يتكامل ذلك مع حرب الدولار القائمة.
المربع الأول الذي انطلقت منه في فنزويلا ولم يؤت أكله، عادت إليه مع إيران، علها تحدث فارقاً. في البداءة، ألّبت الفئات الشعبية المختلفة على تشافيز ثم على خلفه مادورو، ولما لم يأت ذلك بثمار، أشعلت حرب الدولار بوجه مادورو، فأدركته إيران، فنقلت أميركا تجاربها السريرية إلى طهران، فصمد الإيرانيون، فعادت واشنطن إلى مربعها الأول.
هكذا تُدار الأمور في ظلّ هيمنة الولايات المتحدة على العالم.
عبث استخباراتي، فحصار، فحرب مالية، فحرب ناعمة (ثقافية).. وهكذا دواليك.
لبنان
بالتزامن مع حرب الدولار التي أطلقتها ضدّ إيران، رأت الإدارة الأميركية مناسباً، لو أنها تطلقها ضدّ حلفائها في المنطقة أو من تسميهم واشنطن بأذرع إيران، فكانت البداءة مع لبنان الذي راح منذ أواخر العام 2019 يشهد انهياراً دراماتيكيّاً في سعر صرف عملته المحلية.
ثلاث سنوات منذ بدء حرب الدولار على لبنان، والأوضاع في هذا البلد على ما هي عليه (راوح مكانك). لا أميركا قادرة على إخضاع المقاومة التي تعتبرها بمثابة فيلق عسكري متقدّم لإيران في لبنان، ولا لبنان قادر على الخروج من أزمته.
لعله من المفارقات النادرة في حروب واشنطن الهجينة أن يبقى المستهدف الأول من حرب الدولار ــ عنينا بذلك حزب الله ــ بمنأى عن شواظ حربها!
لقد نجح حزب الله في تفادي ارتدادات الحرب المدمّرة، فبنى لنفسه منظومة مالية قوية، جعلته بمنأى عن كلّ ارتدادات تلك الحرب، فيما نال الشعب اللبناني، لا سيما الطبقات الفقيرة منه، النصيب الأكبر من هذه الحرب.
بات لحزب الله اليوم، ماكينات ITM (صرافات آلية) خاصة به، جعلت من حرب الدولار نزهة، يتفنن قادة الحزب في التحايل عليها.
حتى بيئته، نجح إلى حدّ ما في تجنيبها ويلات تلك الحرب، حيث أبدعت فرقه الإغاثية في اجتراح الوسائل الآيلة إلى التخفيف من وطأة الأعباء الاقتصادية على الفئات المعدمة.
سورية
في سورية، لم يكن الأمر سهلاً إلى هذا الحدّ. الدولة محاصرة بكلّ مؤساساتها، ومفاصلها الرئيسية شبه معطلة، ولا إمكانية لاجتراح أي نوع من الحلول، لا سيما في ظل إحكام قانون قيصر الخناق على كل مفاصل الحياة فيها.
الوضع ليس على ما يرام هناك، ومع ذلك، لا زالت الحكومة والشعب السوريان يبديان مقاومة لافتة. إنها إرادة الحياة بكلّ بساطة.
بعد 12 عاماً من الحرب والاقتتال وجدت أميركا أن دمشق لا زالت قادرة على المناورة، فقررت أن تخضعها هي الأخرى لتجاربها المخبرية. الولايات المتحدة تتعاطى مع مناوئيها وكأنهم فئران مختبر. لا تتوانى للحظة عن تجربة كل أنواع الأدوية واللقاحات عليهم. منهم من يصمد أمام محنة التجارب المتكررة ومنهم من يسقط.
سورية لا زالت حتى اللحظة صامدة بكلّ ما لكلمة الصمود من معنى. فهل تنجح الولايات المتحدة أخيراً في ليّ ذراعها؟ من يصمد أكثر في حرب الإرادات واشنطن أم دمشق؟ أما زال في الروح بقية حتى تقاوم سورية وتنتصر؟ أسئلة كثيرة نطرحها برسم الأيام المقبلة!
اليمن
في اليمن، ليس الحال مختلفاً عنه في سورية، فالبلاد أنهكتها سنوات الحرب السبع، ومع ذلك لا زال اليمن صامداً.
حصار مطبق من جهات اليمن الأربع ناهيك عن الجو. قتل وخراب وتدمير ممنهج. إبادة للحجر والبشر. ومع ذلك لا زال في الروح بقية.
العملة اليمنية في وضع لا تحسد عليه. عندما فشل ابن سلمان في كسر الإرادة اليمنية أومأ إلى مشغلِّه الأميركي، كيما يحرك سلاح الدولار، فكان أن تدهور سعر الريال اليمني بشكل مفرط.
مشكلة أميركا الكبرى، أنّ أعداءها مؤدلجون، ومستعدون للتضحية بالأرواح دفاعاً عمَّا يعتبرونها قضية مقدسة. من سوء حظها أنها ابتُليت بهذا النوع من الأعداء.
العراق
في العراق، الوضع أقلّ سوءاً بكثير، ففي هذا البلد الذي خرج حديثاً من تحت عباءة الاحتلال الأميركي، يتحكم بمفاصل القرار لاعبان: الفساد الإداري، والتناحر المذهبي والقومي، واللافت أن كِلا اللاعبين يُداران أميركيّاً.
هناك، حيث لأميركا اليد الطولى في كلّ شيء تقريباً، كان من الأسهل لها أن تحرك لعبة الدم، مستفيدةً من التنوع المذهبي والقومي، فشرعت تمهد للجماعات التكفيرية طريق الاستحواذ على البلاد، بالتزامن مع استفحال أمر تلك الجماعات في الجارة الغربية (سورية)، وهكذا قُيِّض لداعش في الـ ٢٠١٤ أن تحتل مساحات واسعة من العراق.
ولولا شرطي النجدة (إيران) التي هبّت بكلّ قواها الحية لنجدة جارتها الغربية لكان العراق اليوم بركاً وبحيراتٍ من الدم.
نجح العراقيون بمساعدة إيران في اجتياز الفخ الأميركي، ولكن حبل الكيد الأميركي لم ينقطع، فما هي إلا بضع سنوات حتى أعادت أميركا تحريك الجمر تحت الرماد، فشرَعت عبر أدواتها الإعلامية الرخيصة، متكئةً على عصا الفساد تؤلب الشارع العراقي ضد حكومة العبادي. لم يكن بوسع العبادي فعل شيء، فالفساد المستشري في بلاده كان أقوى من أن يواجهه، ما اضطر الرجل تحت وطأة الضغط الأميركي المشفوع بتظاهرات شعبية عارمة إلى الاستقالة، وهكذا فُتِحت الطريق واسعاً أمام الكاظمي، رجل الاستخبارات العراقي البارز، ورجل أميركا الأول على حدّ وصف خصومه.
مع وصول الكاظمي، خُيِّل للعراقيين أنّ الأمور عادت أفضل مما كانت، ولكن ما هي إلا سنة ونصف السنة حتى أدرك العراقيون أنّ الكاظمي ليس رجل المرحلة، فأطاحوا به ديمقراطيّاً، وأوكلوا أمر البلاد إلى السوداني.
السوداني الذي لم يمرّ على حكومته سوى أشهر قليلة، بدأ هو الآخر يشعر بوطأة العبث الأميركي. لقد وجد الرجل نفسه في مواجهة حرب جديدة عليه، قديمة على جارتَيه (إيران، سورية) فماذا يصنع؟
الدولار يتأرجح صعوداً وهبوطاً، والطبقات الفقيرة في العراق، لا قِبل لها في الصمود أمام هذا النوع من الحروب، فهل تصمد حكومة السوداني، أم تقدّم أوراق اعتمادها للأميركي، أم تسلم الروح؟
من يعرف السوداني، يعرف جيداً أنه ليس من النوع الذي يمكن أن يبيع نفسه للشيطان الأكبر، وعليه فإن الأمور في هذا البلد الشقيق متجهة نحو التصعيد، أو على الأقل هذا ما نتوقعه.
روسيا
من بين كلّ الدول التي أخضعتها أميركا لتجارب الدولار المخبرية، وحدها روسيا العنيدة نجحت في تفادي شواظ الحرب، بل ونجحت أيضاً في تسديد لكمات متتالية إلى المنظومة المالية الأميركية، ما جعلها تتخبّط ذات اليمين وذات اليسار.
خُيِّل لأميركا، أنّ بمقدورها قلب الطاولة على رأس بوتين، عبر لعبة الدولار، ولكن الرجل على ما يبدو كان قد وضع مسبقاً خطة متكاملة لتفادي ارتدادت تلك اللعبة.
بمجرد أن عبرت القوات الروسية الحدود الإدارية لأوكرانيا، أوعزت أميركا لحلفائها الأوروبيين البدء بمناورة الدولار، لكن الكرملين كان متنبِّهاً لتلك اللحظة، فأصدر قراراً يفرض على كلّ الراغبين بشراء معروضه من الغاز الطبيعي تسديدَ الثمن بالروبل الروسي بدلاً من الدولار واليورو.
وما هي إلا أيام حتى استعاد الروبل عافيته، بعدما تدنّت قيمته إلى مستويات قياسية، مع انطلاق العملية الروسية في أوكرانيا، فنجحت خطة بوتين في قلب رأس المجن، ضاربةً بذلك عرض الحائط وواضعةً نهائيّاً لعبث حرب الدولار التي لا تنتهي.
البرازيل
في البرازيل، لا شيء حتى اللحظة يشي بأنّ أميركا بصدد إدخال هذا البلد في دوامة الدولار، ولكن من يدري فساسة واشنطن لا يمكن التنبّؤ بردّ فعلهم.
لقد أتاحت الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخراً في البرازيل الفرصة أمام اليساري لولا دي سيلفا للعودة إلى الحكم مجدّداً، ما جعل أنصار أميركا هناك يتفلَّتون من كلّ عقال.
فجأة، ومن دون سابق إنذار، أخذ هؤلاء يقتحمون الإدارات الرسمية البرازيلية، ويستولون عليها الواحدة تلو الأخرى، في مشهد أعاد للأذهان ما فعله أنصار أميركا في فنزويلا عقب وصول الراحل تشافيز إلى الحكم.
لم تدم الاضطرابات طويلاً. حاليّاً عاد كلّ شيء إلى سابق عهده في العاصمة برازيليا، والأمور باتت تحت السيطرة، بعدما نجح أركان الحكم الحالي في استعادة زمام المبادرة، فماذا بعد؟
هل ستكتفي الولايات المتحدة بذلك، أم تعيد الكرَّة من بوابة الدولار؟!
من يراقب سير عمل الخطط التي وضعتها الولايات المتحدة للنيل من خصومها على مدى الأعوام القليلة الماضية، بدءاً من فنزويلا، مروراً بإيران، وروسيا، وغيرها، لا يستبعد أن تلجأ إلى حرب الدولار في محاولة ترويض خصمها البرازيلي.
المرحلة الأولى: عبث استخباراتي، وتأليب الشارع، وإثارة الفوضى، وزعزعة الاستقرار.
المرحلة الثانية: الحصار المالي، ولعبة الدولار.
لقد نجح لولا دي سيلفا في تخطي المرحلة الأولى، وعليه فإن ما ينتظره تالياً هو لعبة الدولار، فهل تنجح الولايات المتحدة في تطويعه وكبح جماحه عبر لعبتها تلك، أم يُخرج الرجل ما في جعبته من مفاجآت، فيُحيل كيدَ أميركا هباءً، كما فعل قيصر روسيا؟
دعونا ننتظر…
*مؤرخ وباحث لغوي وسياسي