ألمانيا المصابة بمتلازمة ستوكهولم
} د. علي أكرم زعيتر*
لفتت انتباه المراقبين مؤخراً اندفاعةُ ألمانيا القوية على مسرح السياسة الدولية. اندفاعة تمثلت أولّاً، في دخولها القوي والجامح على خط الأزمة الأوكرانية، عبر دعم وتسليح الجيش الأوكراني، واتخاذها موقفاً عدائيّاً حيال روسيا. وثانياً، دعمها الفاعل لمثيري الشغب في إيران، ومشاركتها البينية في التحضير لعملية اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس.
ألمانيا التي لم تغب يوماً عن مسرح السياسة الدولية، منذ ما قبل قيام حكومة الرايخ في النصف الأول من القرن المنصرم، لم تكن يوماً بهذه الحماسة المفرطة، منذ أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عام 1945.
آنذاك، كانت قد خرجت للتوّ من الحرب، بعدما تلقت هزيمة مدوية على يد الحلفاء وشريكهم الظرفي وقتها (الاتحاد السوفياتي). مذّاك والحضور الألماني على مسرح الأزمات العالمية خجول نوعاً ما، وهو في الغالب كان يتخذ صفة المساومات وإبرام الاتفاقات. لم يسجل لألمانيا أيّ موقف تصعيدي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك بالرغم من سنوات الانقسام التي عاشتها بين شطريها الشرقي والغريي، أيام الحرب الباردة، فماذا جرى حتى قرّرت كسر الجمود النمطي الذي عاشته طوال تلك الفترة؟ هل بدأت تشعر أنّ الخطر يتهدّدها، وأنّ الخناق الروسي بات يضيق أكثر فأكثر على رقبتها؟ أم أنّ إيعازاً ما تلقته من جلادها القديم، ومعبودها الجديد الولايات المتحدة؟
بالأمس نشر الحرس الثوري الإسلامي الإيراني فيديو يظهر تورّط ألمانيا المباشر في اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس. وقبل ذلك بمدة وجيزة كشفت تقارير إعلامية استخباراتية تورّط أجهزة الأمن الألمانية بشكل مباشر في تغذية الاضطرابات التي عصفت بإيران مؤخراً، وبدعم مثيري الشغب هناك. فهل يشكل ذلك عودة ألمانية (مظفرة) إلى مسرح السياسة الدولية، أم أنه توزيع أدوار أميركي، كما سبق ولفتنا؟
لمعرفة ذلك، علينا أن نعطي لمحة تاريخية سريعة عن سنوات الترويض التي عاشتها ألمانيا في كنف الجلاد الأميركي، سواء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي. وعلينا أيضاً أن نراقب حركة الروبوت الياباني المتزامنة، لأنه على ما يبدو يسير بالوتيرة نفسها التي يسير عليها أحفاد قبائل الدوتش في برلين.
على مدى سنوات من الترويض والتغلغل داخل مفاصل الحكم في كلّ من ألمانيا واليابان نجحت الولايات المتحدة في ترويض هاتين الدولتين وفي تحويلهما إلى دميتين أو روبوتَين بكلّ ما الكلمة من معنى.
المفارقة أنّ كلتي الدولتين كانتا عدوّتين لدودتين لواشنطن، وكلتيهما تعرّضتا للهزيمة الساحقة على يد قوات المارينز، إبان الحرب العالمية الثانية، ما ينحو بنا إلى القول، إنّ نجاح تجربة الترويض على مدى ٧٧ عاماً أنتج لنا دولتين مدجنتين ــ مروّضتين إلى أبعد حدود.
من يراقب تدابير القادة في برلين وطوكيو، ومواقفهم وتصريحاتهم، يلحَظْ سريعاً أنها ترداد أو صدى لما يتمّ اتخاذه من قرارات في واشنطن. فعندما يشعر ساكن البيت الأبيض أنّ التنين الصيني على وشك الانقضاض عليه، يعطي الإذن لقادة طوكيو المدجّنين بالكلام وبإطلاق التصريحات النارية ضدّ الصين.
وعندما يحسّ أنّ قوات القيصر أوشكت على حسم المعركة في أوكرانيا، أو كبّدت القوات الأوكرانية المدعومة من الدول الغربية خسائر فادحة، يأذن لكهول برلين برفع السقوف عالياً ضدّ موسكو.
إنه إذاً مسرح الدمى العالمي الذي تتحكّم به الولايات المتحدة، ولا شيء آخر، وفي أبعد التقديرات توزيع أدوار تمليه واشنطن على ضحاياها، بعدما نجحت في إقناعهم بأنها (المخلص) الذي أرسلته السماء لإنقاذهم.
ولعلّ الحال ذاته، بالنسبة لإيران، ولكن مع فارق بسيط بين الحالتين الروسية والصينية. فإيران لا تشكل أيّ تهديد مباشر ضدّ ألمانيا، ومع ذلك نجد اندفاعة ألمانية مريبة على مسرح العداء الأميركي ــ الإيراني، فما السبب يا ترى؟
لمعرفة ذلك، علينا أن نعيد تقليب صفحات التاريخ جيدّاً، فألمانيا التي كبّدتها أميركا أثماناً باهظة بدعوى تعويض اليهود عن محرقة الهولوكوست المزعومة، باتت على ما يبدو تعاني من متلازمة (ستوكهولم) وهي متلازمة نفسية أو اضطراب نفسي ينشأ عن تعاطف الضحية مع جلادها مع مرور الوقت. فهل هي متلازمة ستوكهولم التي تحدو بألمانيا لاتخاذ هذا الموقف العدائي حيال إيران أما أنّ هناك أمراً آخر.
سندع ذلك للأيام، فهي كفيلة بتبيان كلّ شيء.
*مؤرّخ وباحث لغوي وسياسي