الوحدة الأوروبية ومؤشرات التفكك
} نمر أبي ديب
بالرغم من التباينات الداخلية وحجم الاختلاف المتنامي في مواقف الدول الأوروبية، وحسابات الربح والخسارة العالمية، شكَّل «الناتو» في بنيته التكوينية إطاراً جامعاً في السياسة العسكرية من جهة، وقدرات الردع الاستثنائي نظراً للتعددية الدولية في حينه، واستراتيجيات الدول المشاركة فيNorth Atlantic Treat Organization « منظمة معاهدة حلف شمال الأطلسي» الذي تمّ إنشاؤه بموجب معاهدة دولية أبرمت في 1949 مع بعض الدول الواقعة على ضفتي «المحيط الأطلسي»، منها دولتان أميركيتان تقعان على الضفة الشرقية كندا، والولايات المتحدة إضافة إلى عشرة دول أوروبية واقعة على الضفة الغربية للمحيط في مشهد أستثنائي أكَّد على مبدأ التكامل العسكري وحتى السياسي، في دول الحلف دون أن تلحظ «المعاهدة» أيّ شكل من أشكال التعاون العسكري، أو حتى الشراكة السياسية مع دول الانتماء الأوروبي من خارج الناتو، وتلك ثغرة وجودية لم تتظهّر مفاعيلها السلبية حتى اللحظة داخل الوحدة الأوروبية، من جهة والأمنين الاجتماعي والاقتصادي نتيجة عوامل عديدة أبرزها:
ـ «المظلة الدولية» الحاضنة بشكل كامل وعلني للانصهار الأوروبي داخل «البيئة الأميركية» المتمثلة بنظام عالمي حكمته استراتيجية القطب الواحد.
ـ «الحالة الوجودية» المتمثلة اليوم في عاملين: سقف التصادم العالمي الذي عملت الحرب الروسية الأوكرانية مؤخراً على أخراجه عن مساره التقليدي على قاعدة، ما قبل الحرب «الروسية الأوكرانية» على أوروبا مجتمعة والعالم ليس كما قبلها.
ثانياً: عدم الدخول الأوروبي سابقاً مراحل وجودية، ذات تهديد مباشر وغير تقليدي يوازي في أبعاده السياسية ونتائجه الكارثية مفاعيل الحرب «الروسية الأوكرانية» وتهديدها المباشر على الحضورين الأوروبي من جهة والعالمي، بـ «نبرتها النووية» وتوازناتها العالمية المختلفة في «الشكل السياسي والجوهر الاستراتيجي»، عن جُملة المقدرات العالمية والاستثناءات الدولية التي قامت عليها وما زالت معاهدة حلف شمال الأطلسي.
قد يكون السقوط الاستراتيجي لمعادلة «القطب الواحد» والالتحاق الدولي في معسكرات عالمية جديدة، متعددة الأقطاب والمركزيات المالية أحد أبرز العوامل الوجودية المؤسسة للأزمة الأوروبية، للمشهد السياسي الاجتماعي من جهة، والعسكري الاستثنائي الذي خرج من خلاله مع بدايات الحرب الروسية الأوكرانية حلف شمال الأطلسي من خدمته الفعلية على امتداد المساحة الأوروبية، التي شهدت إضافة للحرب الأوكرانية التي تنصّل منها الناتو، حرب من نوع آخر أصابت بمفاعيلها الكارثية على البيئة الأوروبية العمق الأجتماعي من جهة، والأمنين السياسي والسكاني، ما يمكن اختصاره اليوم بعبارة حرب الغاز والحاجة الأوروبية لتأمين البدائل التي عجزت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها مجمل الدول النفطية الحليفة منها والصديقة عن تأمين ما يمكن أن يقدّم على مستوى «المواجهة» الحدّ الأدنى من مقوّمات التخطي الحقيقي «للجولة الروسية الأولى».
فقد كشفت الحرب الروسية الأوكرانية مع «حصار الغاز»، الاستراتيجية التي عمل بها الجانب الروسي، عمق الترهّل البنيوي العسكري السياسي وحتى الاجتماعي في «جسد الصمود الأوروبي»، كشفت نوعية التحديات، وجملة الحقائق السياسية، والمتغيّرات الوجودية، التي باتت تنتظر «المستقبل الأوروبي»، بفعل النظام العالمي الجديد وحتمية الفصل السياسي لاحقاً بين مجموعة «الرؤوس الحامية» في أوروبا ذات الرهان الدائم على مفصلية الدور الأميركي، والدول الأوروبية الأخرى ذات الرؤية الاستراتيجية المختلفة، التي خرجت تباعاً، أو ما زالت تُمهّد لخروج سياسي/ عسكري آمن من عباءة الولايات المتحدة الأميركية، ونفق الأزمة العالمية، والأوروبية تحديداً المستمرة بفعل التضخم الذي تحدّث عنه رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس حين أكَّد على أنّ (انخفاض النمو الاقتصادي العالمي في الفترة الممتدة ما بين 2023 و 2024 من نتائج استمرار التضخم وانخفاض الاستثمار العالمي) معتقداً أنّ التباطؤ سوف يكون طويل الأمد.
انطلاقاً من استثنائية المشهد العالمي الجديد، وتأثير الحرب الروسية الأوكرانية على كامل المساحة الدولية والأوروبية تحديداً، تبقى الإجابات السياسية الواضحة على مجموع التساؤلات المركزية والعناوين الأستثنائية «ضمانة استراتيجية» لمسار أوروبا المستقبلي، حيث شملت التساؤلات المطروحة، الفارق الاستراتيجي الذي يمكن أن تقدّمه أوروبا مجتمعة أو حتى إضافته «للنظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب»، بعد التجارب الأخيرة الغير مشجعة وتثبيت نظرية القارة العجوز، الغير قادرة على النهوض العسكري من جهة، أو تأمين الحدّ الأدنى من اكتفائها الذاتي، بفعل العجز الواضح والفاضح لحلف الناتو واستراتيجية حصار الغاز، التي ساهمت في وضع «أوروبا اليوم» أمام تحديات داخلية وخيارات استثنائية لامست في أبعادها الوجودية «سبل وكيفية» التعايش الظرفي والاستراتيجي مع معاهدة حلف شمال أطلسي، سقطت مع كامل بنودها العسكرية والسياسية على عتبة الحاجة الأوروبية للحماية، والتأمين الدائم للبدائل، على مسار «الاختبار الوجودي الأول للمعاهدة الأطلسية» منذ إبرامها حتى اليوم.
«العالم يتعامل مع اللاعبين الأقوياء» تلك حقيقة يدركها الجميع، وعلى أوروبا اليوم إثبات قوتها، لضمان الوحدة الداخلية من جهة، ودورها الفاعل الأساسي والمؤثر في النظام العالمي الجديد.