الفدائي وأمُّه
في ليلةٍ صفو رضاءِ ظلماء تحلم بالضياءِ
سمحاء، من تلك التي شهدت مخاض الأنبياء
نهض الفتى وبمسمعيه تعجّ أصداء النداء
يتنطَّق العزم المضاء ويشتكي وخز البِطاء
وتململت – وكأنما حدست – مسهَّدة النساء
لمحت فهبَّت فاستوت فهفت مجنَّةَ الخِطاء
فزعًا اليه كأنها إحدى المنفَّرة اللّباء
غضبى، يهدّد شبلها في طيشه خطر فجائي !
– يا ابني إلى أين المضيُّ؟ أجاب : يدعوني ولائي
قالت : وأمك؟ – حسب أمي في أساها من عزاء
اني لأرض الأمهات أُعِدُّ أسباب افتدائي
أمُّ المسيح وأم أحمد… واللواتي في الوطاء
تحت الخيام ينمن في موج الصقيع بلا غطاءِ
أطفالهن على مسيل البؤس تطفو كالغُثاء…
ماذا أقول عن المصاب، ولست في باب الرثاء؟..
– يا ابني فلسطين انتهت حكم القضاء بلا مراء
قدرٌ لنا، سبحانه في ملكه راعي الرُّعاء !
وقعت على قلب الفتى الكلماتُ كالجمر الذَّكاء
تصلي شغاف الكبرياء وتصطلي بالإكتواء
فتوهجت عيناه إشعاعًا يشفُّ عن التظاء
وتطايرت من اصغريه شكاته حمم اصطلاء :
– أمي، سالتك بالتقى لا تحرفي خطّ السواء
كفر بذات الله فلسفة المذلَّةِ و الغباء
قَدَرٌّ ؟.. وكيف تقدَّر الأقدار؟ تُلقى في الهواء
عمياء في ظُلَم الجزاف الزاحفات إلى اعتماء…
من يقدر الظلم المؤبَّد قسمةً للأبرياء ؟..
عشرون عامًا قد مضت في كل عامٍ ألف داء
عشرون، يا أمي ! نما بؤسي، نما هول النماء
والداء يأكل في صميمي كل آمال الشفاء !..
أَوَتذكرين صباح ذاك اليوم ؟.. أم غِيَرَ المساء
عشرين عامًا في الضراعة فالقنوط فالانطواء
قد عطَّلت ذكراه، عابثةً بطيات الكِفاء ؟..
إني أعيش صباح ذاك اليوم، لا يجدي اتقائي
أبدًا يجيش بخاطري يزكو معي، يرعى زكائي
ترتادني احداثه الحمراء، تدمى في دمائي
علنًا تقمَّصني وسلسل روعه بيَ في الخفاء
أصبحتُه، أمسيتُه أنَّى سعيت سعى ورائي
اني أعيش صباح ذاك اليوم في مثل انتشاء
لم أنس يافا : بيتنا، بستانه، بئري، دلائي
وأتى اليهود، وخرَّ مذبوحًا أبي، كابي الذَّماء
وجررتني طفلًا يجرجر ذعره ملء الفضاء
حتى اذا بعدت خطاكِ وزال شرّ الأشقياء
هلَّلتِ تبتهلين رافعةً يديك إلى العلاء…
لا، لن أسوق الذكريات ! قضيت عمري في انطوائي
الطفل شبَّ على الدعاءِ وشاب من عقم الدعاء !
– يا ابني كفرتَ ! – كفرتُ يا أمي بكفر الأغبياء
بالمسلم المستسلم المعتلِّ بالقدر البدائي
بالقاذفين الله بالسوءات ، أقدار افتراء
بالصائمين عن الجهاد، القانتين على ارتماء
بالجاعلين الدين في الدنيا تعاويذ ارتضاء
فلدعوة الإسلام أجلى من عموه الأدعياء !
قدر ؟.. وأبقى هكذا في الناس مجلبة ازدراء
أجترُّ يأسي في قذارة ذِلّتي كالخنفساء ؟..
لا، لا، معاذ الله ! لن يحيا السخيّ بلا سخاء !
قدري، أنا خطّطته وحتمته ألفي ويأئي
بعد الهزيمة لجَّ بي التسآل : ما معنى القضاء ؟
ما الله ؟ ما الإنسان، ما البرق الملعلع في العماء
ما العقل يبتكر الجديد من الحديد، من الهباء
ما الداء يُعضِل ثم ينصل تحت تأثير الدواء
ما اليأس في الميزان، والثِقل المرجّح للرجاء
ما الإنهيار، وكل فعل ارادةٍ أُسُّ البناء ؟..
وجثوت مثل المصطفى دنف العقيدة في حراء
وجِلًا أفتش عن غدي بعد الهزيمة، عن حيائي
عما أقول لإخوتي المستشردين بلا ثواء
النافرين على القنابل في السفوح وفي الجِواء
الناعلين الرمل في التيه الحراق بلا حذاء
اللاجئين تُذِلُّهم أخباؤهم تحت الخباء
الناقلين عيالهم أبدًا على مدّ العداء
الجاهلين مصيرهم الصائرين إلى فناء…
ورأيت أشلاء الذين استشهدوا يوم التنائي
تسري كما الأشباح في خلدي ملطَّخة الكساء
أبدًا تناديني وتزعق في ضميري كالمواء
أبدًا تشير إليَّ محتقرًا كأبناء الزناءِ
أبدًا تحرّك في كوامن محنتي معنى انزوائي
أبدًا تحاسبني : أنا المسؤول… وانبثق اهتدائي!
خفقت بنفسي أمتي الثكلى كرعشة كهرباء
فشعرت اني قد عُتِقت، ورحت أنصل من وعائي
لقيت ماضيَّ الثقيل على الحضيض بلا احتفاء
فنضى الونى عن كاهلي وانزاح عن صدري عنائي
وتنفَّست رئتاي ملء مطامحي وبدا رُوائي
وتقلصت عضلات وجهي في اعتزام الأقوياء
وشعرت ان أظافري ملكي، وأنضائي غشائي !
مزَّقت أسمالي : خرافاتي وحرصي واستوائي
مزَّقت خوف العري، خوف الجوع، خوف الإمّحاء
مزَّقت أطمار التخاذل والتواكل والرياء
مزَّقت جلباب التأني والتمني والدهاء
مزَّقت آلاف الستور تلفّني كالمومياء
وبرزت تحت الشمس عريانًا طليقًا في العراء
ونسجت من آمال آلامي، ومن حقي، ردائي !
– يا ابني !.. – كفى يا أمِّ، لا تُلقي الغبار على البهاء
لا تسأليني رجعةً قُدُمًا أسير بلا التواء
أسعى إلى قدري كومض البرق في حلك الشتاء
أنساب هفهافًا إليه كرفة الحلم البراء
والشوق يُرقِص في دمي لحنًا كأصداء الحداء
متسلّحًا عزمي اقتحام الموت، أو يُبلي بلائي
كوفيَّتي الرقشاء تخفق في العواصف كاللواء !..
تبكين يا أماه ؟ دمعك طعنة في كبريائي
أنا لم أعد ذاك المحنَّط بالدلال وبالرخاء
أيظلُّ بعد النكبة الكبرى كما كان احتمائي
ومن الخليج إلى المحيط أجرُّ ذُلّي وانكفائي
لا، لن أموت اذا قتلت فإن في موتي بقائي !
تبكين، تنتحبين !.. قلبي يدلهمُّ من البكاء
قدري يناديني، وتبسم لي هناك صوى اللقاء
أنا لم أعد ملكًا لنفسي، والشنار طما إزائي
أنا ملك أرضي، وهي عطشى، ريُّها بدمي وفائي
أنا صنع بعد النكبة النكباء، ثأر الإعتداء
أنا للتأهّب والتحسّب والتوثّب والضراء
أنا للتحدّي والتصدّي والتعدّي والمضاء
أنا للوجيعة والنجيعة والفجيعة وا لعفاء
أنا زارع رعب الدمار بمن يدمّر حوض مائي !
تبكين ؟.. دمعك زفرة سوداء في نَفَس الإباء
كأداء في النَفَس الطليق، وأنت سيدة الإماء
كيف السبيل اليكِ، يا أمّاه ؟ يعوزني ادائي
ما أنت بعد اليوم أمي، محض أمي، في اكتفاء
ما أنت لي وحدي، ولا وحدي وليدك في انتمائي
أنا في دمي آلاف اخواني، رفاق الاجتراء
يتشابهون بعزمهم ومضائهم كنقاط ماء
يتسابقون إلى اقتحام الأرض من باب السماء
يتزاحمون على حياض ا لموت رُوَّاد ارتواء
يتوالدون : دم الشهيد ملقّح خصب العطاء
ولأنت أمٌّ للجميع : أميرة العمل الفدائي
ومشى إلى باب الخباء يفك من عقد الرشاء
فمشت إليه كريمة القسمات، في مثل ازدهاء
يُضفي على الوجه الجميل سنى تقاة الأصفياء
وتسلسلت كلماتها طربًا كألحان الغناء
– يا ابني فهمتُ – سكبتَ شيئًا من نقائك في نقائي
لن يشتفي منا غليل في مراوغة الظماء
شرفًا قبلت بنوَّة الآلاف، ركبان الفتاء
وفتحت قلبي للجميع هُمُ وأنت على اخاء
تصلَوْن اسرائيل نار قلوبكم حتى الجلاء !
لمعت دموع النصر في عينيه كالطلِّ الصفاء
فهفا وعانقها وفرَّ كأنه رشأ الظباء
وطوى الدجى وثباته إلا صداها في الخواء
وتخلَّجت في نفسها غمرات كربٍ وانجلاء
متناوباتٍ تضمحلُّ وتستحيل رؤى هناء
وتألقت في الباب تعتصر الدجى، والقلب ناء
يهفو وراء وحيدها الهافي… ويلهج بالرضاء
سليم حيدر 1970