باقري شخصية تختزل ثقافة الدبلوماسية والتفاوض
ناصر قنديل
– في جلسة بعيدة عن السبق الصحفي، والتعطش لمعلومة جديدة، دعا المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عددا من الأصدقاء متعددي المشارب الثقافية والفكرية والسياسية، إلى جلسة حوار مع مساعد وزير الخارجية الإيرانية، وكبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي، الدكتور علي باقري، لبّى الأقربون لكن بعضهم دخل بعض المناطق المحرّمة، ربما أكثر مما قد يفعله الأبعدون، فكانت الجلسة التي أدارها ببرود الباحث وحرارة المقاوم رئيس المركز الدكتور عبد الحليم فضل الله، وختمها بالابتسامة الدبلوماسية والاستعداد لمواصلة النقاش السفير الإيراني في لبنان مجتبى أماني؛ جلسة شديدة الغنى، بعيدة عن الإثارة التي قد يحققها تداول المعلومات وكشف الأسرار، لكنها تقدّم لمن يرغب فرصة في استكشاف الخلفية الثقافية والفكرية لفلسفة الدبلوماسية والتفاوض في الدولة التي ولدت من رحم الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الراحل روح الله الخميني ويواصل قيادتها الإمام علي الخامنئي، بصفتها دولة تستوحي قيمها ومفاهيمها من الإسلام، وتسعى لتقديم نموذج عالمي جديد، تتباهى بأنها نموذج صنعته دولة ولاية الفقيه، لأن الدكتور باقري يشبه بشخصه وثقافته وانفعالاته الهادئة ونبض حرارته المستتر ومفرداته. هذه الفلسفة وهذه الثقافة، التي تقف وراء صناعة الدبلوماسية والتفاوض.
– تخوض إيران الإسلامية عبر الدبلوماسية والتفاوض حرب مفاهيم حول العلاقات الدولية، التي كانت قائمة على رسم الأقوياء ثم رسم القوي، لأدوار الأقل قوة، ودخلت إليها إيران تصارع لجعلها منظومة علاقات قائمة على حقوق وواجبات تدور حول مفهوم العدالة، وهذا صراع لا يخاض فقط في ميادين البناء العسكري، أو إثبات القدرة على الصمود، أو تحقيق الإنجازات العلمية، أو التقدم بمستوى معيشة المجتمع بمفهوم الرعاية العادلة، وهي أدوات رئيسية في الصراع، إنما تشكل الدبلوماسية المساحة الأوسع لخوض الصراع الثقافي والمفاهيمي حولها، ولذلك لا تخوض إيران المفاوضات حول ملفها النووي من زاوية أحادية محورها الوحيد، مستقبل الحاصل التفاوضي لتثبيت حقها بالتقنية النووية السلمية، وحقها بالمتاجرة دون قيود، وهي حقوق خارج التقسيم الوظيفي الذي رسمه القوي المتحكم بالعلاقات الدولية لإيران، تستحق أن تكون أهدافا مشروعة وشرعية للتفاوض وفق فلسفة الدبلوماسية الإيرانية وثقافتها، بل تخوض المفاوضات ايضاً لأنها عبر التفاوض تترافع عن هذه الفلسفة وهذه الثقافة وتعمم مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية، وهي لذلك لا تقيس البقاء في المفاوضات بدرجة الجدوى العملية من مواصلتها فقط، بل بقياس مساهمة هذا التفاوض في نشر وتعميم هذه المفاهيم الجديدة للعلاقات الدولية، وجعلها قواعد غير قابلة للإنكار على طاولة التفاوض، حتى من الخصوم الأقوياء أنفسهم الذين رسموا التقسيم الوظيفي لأدوار الأقل قوة.
– تخوض إيران الإسلامية عبر الدبلوماسية والتفاوض، مشواراً تاريخياً طويلاً، لا تنتظر التغييرات السريعة فيه، لأن ما تمّ ترسيخه طوال قرون وعقود من العلاقات الدولية، وارتكز الى موازين قوى اقتصادية ومالية وعلمية وعسكرية، وأحاطت به منظومة مفاهيم وقيم وثقافات، لن يتم التسليم بتغييره بسهولة، ولذلك ايران ليست مستعجلة، وهي ليست مستعجلة للوصول بالتفاوض الى نهايته الإيجابية، وليست مستعجلة لليأس من التفاوض وصولاً الى إنهائه، فحتى عندما يبدو التفاوض في حالة خمود تحرص إيران على إبقائه على قيد الحياة، وتقيس عبره درجة التقدم الذي تحققه في صراعها نحو المفاهيم الجديدة للعلاقات الدولية، وهي تسعى لبلوغ مرحلة يصبح التفاوض طريقاً أحادياً يسلم خصومها أن ليس بين أيديهم سواه، وأنه خيار لا يمكن تفاديه، لأن إيران بتقدمها وحجم ما تنجزه، غير قابلة للتجاهل، وغير قابلة للكسر أو للعصر، ولا بدّ من التفاوض معها، ولا بديل عن التفاوض معها؛ وبالتوازي مرحلة يكون فيه التفاوض خياراً بالنسبة لإيران وليس ممراً إلزامياً، فتبقى تفاوض لأنها تريد البقاء، وليس لأن ليس لديها بديل عن البقاء. وإيران بلغت هذه المرحلة أو تقترب من بلوغها، ولهذا ليست مستعجلة على بلوغ التفاوض نتائج عملية، ولا هي مستعجلة للحكم على التفاوض بالفشل.
– المقاومة بالنسبة لإيران الإسلامية هي مكوّن عضويّ في الصراع الذي تخوضه الشعوب لتغيير منظومة العلاقات الدولية، وهي المساحة التي تتنفس من خلالها الشعوب حقها في الحياة، والصراع هنا صعب ومرير، بين محاولة ثقافيّة تريد أن تقول لشعوب أن حياتها ستكون موحشة وصعبة وقاسية في ظل المقاومة، ومشروع يريد أن يقول للشعوب أن كلفة المقاومة مهما بلغت تبقى أقل من كلفة التراجع والهزيمة والاستسلام، ولأن رسالة المقاومة على هذه الدرجة من السموّ فهي ليست أداة للتفاوض، لأن التنازل عنها أو القبول بتقييدها إعلان انتصار لثقافة الهزيمة والاستسلام، والمكاسب المحققة مقابل هذا التنازل هي إثبات للثقافة التي تقول إن التخلي عن المقاومة مصدر للازدهار، وما تزوّد به المقاومة ثقافة الدبلوماسية والتفاوض، هو وقائع حية يجب أن تكبر وتنمو وتزدهر، حتى يفهم عالم الأقوياء أو القوي، أن العالم أكبر وأعقد من أن يوضع في علبة، وأن الشعوب تتنفس في هواء طلق غير قابل للتقييد، وتصنع وقائع لا تقبل المعاندة، ولا الإنكار، تتحدّى العقول لإنتاج معادلات للعلاقات الدولية تستطيع استيعاب ومساكنة الحقائق التي تنتجها المقاومة، وهي أقرب إلى ما يؤدّيه التقدم العلمي في مسيرة الصراع، حيث المضي قدماً في سلم الصعود العلمي للشعوب، وهو ما تفعله إيران، طريق غير قابل للرجعة، وغير قابل لوضعه على الطاولة أو إلغائه في ساحة الحرب، لأنه موجود في عقول العلماء، والمقاومة كذلك حالة روحية وذهنية، وإرادة صلبة مؤسسة على ثقافة إنسانية عميقة، مزروعة في العقول والقلوب والأرواح، وكلما اتسعت دائرة انتشارها صارت أكبر من أن يحيط بها أحد، أو يتوهم احتواءها، أو القدرة على إلغائها، أو المطالبة بالتخلي عنها. وهذا هو المشهد الذي تقدّمه فلسطين اليوم.
– بهذه الثقافة تقارب إيران علاقتها بروسيا والصين، نحو عالم تحكمه علاقات دولية محورها الحقوق والواجبات والعدالة، وبهذه الثقافة تقف إيران مع سورية وشعوب المنطقة، وبهذه الثقافة تحرص إيران على النجاح في بناء علاقاتها بجيرانها وفي مقدّمتهم السعودية، وهي كما في الملف النووي غير مستعجلة، هنا أيضاً غير مستعجلة، غير مستعجلة للوصول السريع الى نتائج عملية، وغير مستعجلة لليأس من مواصلة السعي.