نافذة ضوء
ستظلّ الولايات المتحدة ساقطة إنسانياً
الى أن يغيّر الأميركيون ما بأنفسهم
} يوسف المسمار*
منذ مئة سنة كتب العالم الاجتماعي أنطون سعاده مقالاً في مجلة المجلة في سان باولو – البرازيل في 24 نيسان 1924، وكان ابن عشرين سنة، تحت عنوان: “سقوط الولايات المتحدة الأميركية من عالم الإنسانية الأدبي” قال فيه:
«…وغداً إذا لاقى الأميركيون من الوطنيين السوريين إعراضاً ونفوراً جزاء إقدامهم على امتهانهم كرامة سورية فقد لا يمنعهم شيء عن أن يتهموا السوريين بالتوحّش والهمجية، وأن ينسبوا اليهم كل فرية هم براء منها.
من يمنعهم؟
أضمائرهم وقد ماتت؟
أقلوبهم وقد تحجرت؟
أعواطفهم وقد اضمحلت؟
أأدمغتهم وقد نضبت؟
أإنسانيتهم وقد أمحلت؟
أنوابغهم والأرض خلاء منهم الآن؟
لا. لا شيء. ولا أحد يمنعهم. وغداً يُسجّل التاريخ أن الولايات المتحدة الأميركية قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي كما سقطت فرنسا العظمى».
ولا أخفي استهجاني واستغرابي عندما قرأت هذا المقال. وفي كل مرة عاودت قراءته متسائلاً: ما الذي رآه انطون سعاده في حكومة دولة الولايات المتحدة الأميركية ولم يره غيره؟
وهل كانت نفسية أنطون سعاده الجميلة والخيّرة والمنفتحة على الإنسان في كل مكان تحمل شيئاً من رواسب العنصرية والعدوانية التي كانت تحملها أجيال الفتوحات الغابرة التي أراد سعاده في حركة نهضة الأمة السورية وضع حدٍ لها حين قال:
«لقد شهد أجدادُنا الفاتحين ومشوا على خطاهم أما نحن فسنضع حداً للفتوحات»؟
أو ما الذي استشرفه فيهم أنطون سعاده ولم يستشرفه غيره من المفكرين والفلاسفة والعلماء والأدباء وغيرهم؟
أيجوز لعالم وفيلسوف ومفكر كبير كأنطون سعاده أن يطلق هذا القول على أميركيي الولايات المتحدة ويؤكد بلا تردّد وبمنطق حاسم باسم محكمة التاريخ: «سقوط الولايات المتحدة الأميركية من عالم الانسانية الأدبي»؟
لا أظن أن أنطون سعاده كان يتنبّأ، ولا هو نبيّ بعد أن انتهى عصر النبؤات، بل الذي أحسست به ولمسته أن أنطون سعاده الى جانب كونه عالماً اجتماعياً وفيلسوفاً نهضوياً كان عالماً نفسانياً اجتماعياً إنسانياً أيضاً من طراز رفيع بديع دخل أعماق أعماق نفسية الإنسان – المجتمع وطبيعته بشكل عام وطبيعة مجتمع الولايات المتحدة الأميركية المريض ليشخص مرضه العدواني على الشعوب وسابقاً زمن المستقبل ومجتهداً ومستخلصاً حكمه العظيم ليضيء بصيرة التاريخ ويتركه دليلاً هادياً للأجيال جيلاً بعد جيل.
وبعد مئة عام على ما كتبه أنطون سعاده وهو في عمره العشرين يسقط استغرابي واستهجاني لقوله وأرى أن الظنون بشيء من العنصرية والعدوانية لا مكان لها في نفسية أنطون سعاده الطافحة والفوارة بقيم الحق والخير والجمال التي رافقته حتى لحظة استشهاده.
ولو أمعنت النظر ودققت جيداً في ما اكتشفه أنطون سعاده كعالم اجتماعي نفساني إنساني باكراً في ضمائر ابناء الولايات المتحدة الأميركية التي ماتت، وقلوبهم التي تحجّرت، وعواطفهم التي اضمحلت، وادمغتهم التي جفت، وإنسانيتهم التي أمحلت، ونوابغهم التي خلت منهم الأرض في ذلك الزمن لما استغربت ولا استهجنت ما كتبه أنطون سعاده قبل مئة عام.
فمن يموت ضميره، ويتحجر قلبه، وتضمحل عواطفه، ويجفّ دماغه، وتمحل إنسانيته قليل عليه أن يُنعت بسقوطه من عالم الإنسانية الأدبي، وقليل على من يبرر سقوطه الإنساني أو يتعامل معه أو يطيعه ويأتمر بأمره أن يحرق نفسه حياً.
لقد جاء حدوث الزلزال في سورية اليوم ليؤكد ما قاله أنطون سعاده وليكون دليلاً بديهياً كضوء الشمس يشهد لأنطون سعاده أنه كان مصيباً وكان على حق حين نرى أن حكومة الولايات المتحدة الأميركية اليوم تنتهز فرصة الأحداث الطبيعية القاهرة واستخدام الزلازل والهزات الطبيعية لتركيع من لا يأتمر بأوامرها كما انتهزت ولا تزال تنتهز استخدام المرتزقة والمجرمين والعصابات الإرهابية المتوحشة وكل الوسائل والأساليب العدوانية ونشر الآفات والأوبئة والجراثيم والمكروبات للفتك بكل شعب لا يرتضي العيش مستعبداً مضطهداً في زرائبها واسطبلاتها وتحت ىسلطتها.
ويشهد للعالم النفساني الاجتماعي الإنساني أنطون سعاده أيضاً صحة رأيه ونظرته الثاقبة واستشرافه العقلي البديع لمستقبل الولايات المتحدة في مقاله:
«… وغداً يُسجّل التاريخ أن الولايات المتحدة العظمى قد سقطت من عالم الإنسانية الأدبي كما سقطت فرنسا العظمى، ولتكن الولايات المتحدة على ثقة من أن الدولارات مهما كثّـرت وفاضت فهي لا يمكنها أن تعمي بصيرة التاريخ».
لقد نجحت الولايات المتحدة نجاحاً باهراً في سقوطها الأدبي الإنساني بموافقتها في ذلك الزمن بعد مصادقتها على وصاية وانتداب فرنسا على سورية و»اشتركت فعلا في الاعتداء على حرية سورية لأنها قد اشتركت في الامتيازات التي هي نتيجة ذلك الاعتداء». كما ورد في مقال أنطون سعاده «لتبيّن للعالم انها دولة مصابة بقحط هائل من رجال السياسة والإصلاح الى حد أنه لم يكن يوجد في طول بلادها وعرضها رجل واحد قام يندّد بهذا العمل العدائي ضد شعب صغير مسالم لم يتأخرعن تقديم الألوف من رجاله فداء شرف الولايات المتحدة والعلم الذي يظللها».
إن من سقطت إنسانيته الأدبية الأخلاقية في هذا العالم بإرادته وتصميمه وإصراره واستكباره وغطرسته، فقد سقط غير مأسوف عليه، ولا شيء ينفعه أو يرد له الاعتبار، ولا أحد عاقل يقدر أن يبرر له هذا السقوط او يعطيه شهادة براءة مهما عظمت قوته التدميرية، وكثرت الأموال التي يغتصبها من أصحابها، الموارد التي يسلبها من الذين يملكونها، والدولارات التي يطبعها ويشتري بها الضمائر.
فالتاريخ بصير، وحكمه عادل، وأجيال الأمم تتطور وترتقي، ومجرى الحياة الحضارية الراقية دائماً وأبداً الى الأمام، والى الأكثر تطوراً مادياً وروحياً، والأرقى والأعدل والأرحم إنسانياً وأخلاقياً وقيمياً.
وهذا هو طريق الصعود الوحيد الى قمم المجد وليس طريق السقوط المظلم الى مهاوي الفناء الذي لا قرار له ولا مستقبل إلا في مقابر التاريخ.
ولذلك فإن حكم التاريخ الذي يمكن استخلاصه بعد الزلزال الذي ضرب سورية وترك ألوف الضحايا، ودمّر مرافقها العامة والخاصة وبعد موقف الولايات المتحدة منا واستخدام الزلازل الطبيعية لفرض شروطها علينا هو أن الولايات المتحدة التي سقطت من عالم الإنسانية الأدبي ستظل ساقطة إنسانياً وأخلاقياً إلى أن يغيّر الأميركيّون ما بانفسهم ويعودوا الى جادة الصواب.
وعلينا نحن أن لا نثق بعد اليوم إلا بطبيعتنا الخيّرة، وعلى أصدقائنا المخلصين الصادقين ذوي الطبيعة الخيّرة، وأن لا نعتمد إلا على نفوسنا العظيمة، وتفعيل قوانا الذاتية، وممارسة البطولة الواعية المؤيدة بصحة العقيدة، وكل ما دون ذلك باطل.
*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.