سنفتقدك كل يوم: أنيس فلسطين
ناصر قنديل
– يشكل أنيس النقاش في الذاكرة اللبنانية والعربية والإسلامية والإنسانية الثورية الأممية، محطة نادرة سمحت بتظهير الدور الجمعي التاريخي الذي كان يحرص على لعبه بالإنابة عن الجمع الذي يمثل، كي لا يكتب التاريخ عن فراغ الحضور لمن كان يفترض أنه يمثلهم. ففي التحاق أنيس النقاش بحركة فتح ما يختلف عن التحاق أجيال لبنانية بالمنظمات الفلسطينية بعد هزيمة عام 1967، فهو لم يذهب الى فتح ليكون ضمن مناخ سياسي شعبي يحتضن القضية الفلسطينية، بل ذهب ليكون قائداً فلسطينياً في الأعمال الفدائية بالنيابة عن كل اللبنانيين، وهو في سن يافع لم يبلغ الثامنة عشرة بعد، وكانت ذروة الحضور في واحدة من أبرز العمليات الفدائية التي قادها النقاش في احتجاز وزراء النفط في اجتماع أوبك في فيينا عام 1975، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، يعوّض بحضوره غياب لبنان الرسمي عن فلسطين، وانقسام لبنان السياسي حول العمل الفدائي الفلسطيني.
– عند انطلاق الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني، وتمسكها بمكانة محورية للقضية الفلسطينية في خطابها ورؤيتها لإيران ما بعد انتصار الثورة، لم يكن أنيس النقاش واحداً من الذين سحرتهم شعارات الثورة وإنجازاتها المبهرة، ولا واحداً من الذين شكلوا مناخاً شبيهاً بالمناخ الذي تشكّل في بيروت حول الثورة الفلسطينية في بداياتها، بل كان أنيس قائداً إيرانياً فدائياً لتنفيذ مهام الثورة وتعليمات قائدها، فعندما كان القرار بالتخلّص من رئيس وزراء الشاه شهبور بختيار عام 1979، إفساحاً بالمجال أمام حكومة الثورة، قام أنيس بالمهمة، بالنيابة عن كل العرب، الذين ناصبت أنظمتهم الحاكمة العداء للثورة الإيرانيّة، بعدما كانوا يركعون لنظام الشاه الحامي لمصالح «إسرائيل»، ولم تظهر الشعوب ما يكفي لتظهير موقفها المستقلّ. ومثلما كان أنيس يقول في سيرته الفلسطينية للفلسطينيين، اعتذر عن تخلف دولتي وضعف إرادة شعبي، وها أنذا أحاول تعويض هذا الغياب، جاء يقول بسيرته الإيرانية التي توجها سجنه لعشر سنوات، أعتذر عن تخلف أمتي وضعف إرادة شعوبها وها أنذا أحاول تعويض هذا الغياب.
– عندما عاد أنيس الى ساحات نضاله بعد السجن مسلحاً بما تذخر به من ثقافة وقراءة وتأمل وتحليل ورؤية خلال عشر سنوات كان الكتاب وكانت الصحف وكان التفكير وكانت الكتابة زاده فيها، كانت الثورة الإيرانية قد صارت دولة قوية وجذوة ثورتها تستعر، وفلسطين لم تبارح مكان القلب فيها، وكانت المقاومة في لبنان التي بدأها حلماً في السبعينيات، قد صارت تشكيلاً منظماً يحقق الإنجازات والانتصارات، فحجز أنيس لنفسه موقعاً متحركاً بين صفوف المفكر والمنظر والفيلسوف من جهة، وصفوف المتحدث والمحاور والمناظر والإعلامي من جهة موازية، وهو لا يترك مقعد الفدائي عند الحاجة، يشارك في الرأي والتخطيط مع أقران شاركوه مراحل البدايات الفلسطينية والإيرانية، وصاروا قادة المرحلة الراهنة، فكتب آلاف الصفحات، وحضر في مئات الساعات التلفزيونية، وبقي دائماً ضمير الشعب والقضية، ولكنه بقي بلا انقطاع أنيس فلسطين.
– في العلاقات الإنسانية جسّد أنيس مدرسة في الأخلاق والغيرية والحب والتواضع، ولا يستطيع كل من عرف أنيس إلا أن يشعر أنه خسر ما يخصّه بخسارة أنيس، وأن مكاناً كان يشغله أنيس لن يملأه أحد بعده، وأن الطفل الصغير الذي يعيش في جسد هذا الحكيم الفيلسوف، دمعته سخية، سريع التأثر، وأنه بدرجة حرارة عواطفه ذاته، بارد العقل، وبدرجة عفوية إنسانيته ذاتها، شديد الدقة في التخطيط كما في الحضور في المواعيد، والحرص على تدوين الخلاصات في كل اجتماع، ومن دون امتلاك صفة خلعها عليه أحد تحوّل أنيس إلى مرجع في فكر المقاومة وثقافتها، ولسان حالها في التعبير عن القضايا، واحتلال الشاشات والمنابر، دون أن يكون قد حجز له أحد هذا الموقع، ويكفي من علامات كرمه المستدام أننا كلما احتجنا الى مثال للمثقف المشتبك نلجأ إلى مثل أنيس، وكلما احتجنا الى الدلالة على أخلاق المقاومين نعيد اكتشاف أنيس، وأننا إذا أردنا التبحّر في عميق القضايا نعيد قراءة أنيس.
– أنيس الذي نفتقده كل يوم يصعب ملء الفراغ من بعده، الى حدّ أن نقول أحياناً إننا أمام تحدٍّ من نوع خاص ودون أن ننتبه، أين انيس، قبل أن نتذكر أنه غادرنا مبكراً، فنتلو لروحه آيات الترحّم.
–
– *في ذكرى مرور سنتين على رحيل المفكر والمناضل الصديق أنيس النقاش.