المال أم الوطن؟
} سعاده مصطفى أرشيد*
يتراكم الهشيم الجاف في كلّ فلسطين وبكلّ قضماتها الجغرافية التي باعدت بين بعضها البعض الهزائم العسكرية والاتفاقات الإذعانية، ولم تعد تحتاج إلا الى عود ثقاب لتشتعل وتدخل في مواجهه مفتوحة مع الاحتلال وحكومة نتنياهو ـ بن غفير التي لا تفرّق بين قضمة وأخرى من الوطن الممزق. فالجميع عدو ويجب التخلص منه، في مناطق 1948 لا تتوقف الحكومة كسابقاتها عن هدم قرى النقب بل تزيد سعاراً ولا تنفك الأجهزة الأمنية عن رعاية الجريمة في الأوساط الفلسطينية، لا تتوقف عن التحرّش بغزة المحاصرة من كلّ جانب والتي تحتاج الى الكهرباء وإعادة إعمار ما دمّرته آلة العدوان عليها في حروب متلاحقه، لا تتوقف عن محاولة تهجير المقدسيين وهدم بيوتهم. أما في الضفة الغربية فقد أصبحت وخاصة شمالها في جنين ونابلس على موعد يومي روتيني باجتياح واغتيال وهدم ومصادرة أرض، حتى ذلك الفلسطيني الأسير القابع في سجونهم فقد طالته سياسات بن غفير الذي لا يكتفي بأسرهم في ظروف بائسة، يريد أن يزيد من التنكيل بهم ليجعل من السجون جحيماً لا يُطاق.
شهر رمضان قد أصبح على الأبواب وهو شهر العبادة والرحمة والغفران عند المسلم الفلسطيني حتى ولو كان متوسط التقوى والورع وغير ملتزم بالعبادات إلا أنه في هذا الشرر يرتفع لديه منسوب الإيمان وجرعات التقوى فيبتعد عن الخطايا ويلتزم الصيام والصلوات الطويلة (التراويح) ويزور القدس والمسجد الأقصى القريب من السماء ويرابط عشرات الآلاف فيه ليلاً ونهاراً تقرّباً لله وحماية له من هجمات المستوطنين الذين يريدون تدنيسة وهدمه وبناء هيكلهم على أنقاضه.
يتزامن شهر رمضان المقبل مع عيد الفصح اليهودي وهو أكبر أعياد اليهود، يمثل دينياً رمز الخروج من ذلّ مصر والتحرّر من فرعونها والعودة الى أرض الوعد اليهوهي الرباني لبناء هيكلهم، لكنه يمثل لغير المتدينين منهم مناسبة وطنية فهو يرمز الى بداية تحوّل الجماعة البدوية الهائمة على وجهها الى شعب، وما الى ذلك من خرافات ينقضها العلم والتاريخ، ولكنها تدعوهم لتكثيف اقتحاماتهم لمكان ما يزعمونه الهيكل وذلك في وقت يرابط به لا أقل من عشرات آلاف الفلسطينيين حماية للمكان مما يجعل من المواجهة ذات احتمالية عالية.
في الخامس والعشرين من كانون الأول الماضي كان أحد اجتياحات جنين حيث ارتكب الاحتلال يومها مجزرة استثنائية استشهد بها عدد كبير من الشهداء تطبيقاً لنظرية بن غفير الجديده التي ترى أنّ تكلفة القتل أدنى بكثير من تكلفة الاعتقال، أمام حالة الغضب العارم وحجم الجريمة التي يصعب الدفاع عنها حتى على المستوى الدولي اجتمعت القيادة الفلسطينية وأعلن الناطق باسم الرئاسة ووزير الإعلام بالحكومة بوجه عابس ونبرة حادة عن قرارات القيادة التي تضمّنت الوقف الفوريّ للتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، والذهاب فوراً لمجلس الأمن للمطالبة بالحماية الدولية للفلسطينيين وفقاً للفصل السابع، ثم التوجّه للشكوى على الحكومة الإسرائيلية لمحكمة الجزاء الدولية، هكذا تحدث الناطق ولكن ما هي إلا فترة قصيرة وإذ ما يحصل على أرض الواقع لم يكن إلا تكراراً مملاً لمرات عديده سابقة كان يتمّ التهديد بها بالأسلوب ذاته ثم العودة عنها وبالطريقة ذاتها.
منذ ثلاثة أيام وإثر اتصال من وزير الخارجية الأميركي برام الله تمّ التراجع عن كلّ ما ورد وفوق ذلك الموافقة على تشكيل جهاز أمني جديد مهماته التصدّي للإرهاب (المقاومة) خاصة في شمال الضفة الغربية، وذلك باستحضار أفكار وآليات عمل الجنرال الأميركي دايتون صاحب نظرية صناعة الفلسطيني الجديد، ولكن بإشراف جنرال أميركي آخر، سيتوفر للجهاز الجديد التدريب والتسليح والآليات وفق معايير أجهزة مكافحة الشغب وبالطبع والأخطر بناء عقيده أمنية جديدة لدى أعضاء الجهاز مضمونها أنّ ما يتهدّد الشعب الفلسطيني باستقراره وأمنه وقوت يومه المقاومة لا «إسرائيل». وقد سحبت فلسطين الطلب الذي كانت ستتقدّم به ـ أو تقدّمت به لمجلس الأمن مقابل بيان من المجلس خالٍ من أيّ مضمون سياسي أو قانوني، مقابل ذلك تعلق «إسرائيل» عمليات اجتياحها للمسجد الأقصى والضفة وعمليات الهدم لبيوت الفلسطينيين وعن بناء مساكن استيطانية لبضعه شهور (وهي لن تلتزم بشيء من ذلك). في المقابل يتمّ ترتيب زيارة للرئيس الفلسطيني لواشنطن وعقد لقاء مع الرئيس الأميركي، وتسمح «إسرائيل» بتطوير عمل الشبكات الخلوية التابعة لشركات القطاع الخاص الفلسطيني وتحصل على نسبة من عائدات الجمارك التي تجبيها «إسرائيل» من المواطنين الفلسطينيين على معبر أريحا، المعبر الوحيد للخارج والمقدرة 200 مليون شيكل سنوياً.
ما يجري هو أولاً تقطيع الوقت لتمرير شهر رمضان وتشكيل شبكة أمان لحكومة نتياهو ـ بن غفير نساهم بها نحن إضافة الى الإدارة الأميركيّة وثانياً أنّها وصفة مسمومة لنقل الاشتباك من ساحة المواجهة مع الاحتلال الى مواجهة فلسطينية داخلية، ويدفع لاستذكار تساؤل رئيس الوزراء حين خاطب الجمهور قبل أكثر من عام قائلاً: بدكم مصاري ولا بدكم وطن، اليوم يقلب المواطن السؤال ويسأل رئيس الوزراء: بدك وطن ولا بدك مصاري؟
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.