إدارة الصراع أم حسم الصراع؟
} سعادة مصطفى أرشيد*
تمثل العودة لاتفاق أوسلو مفتاحاً ذهبياً للدخول في الشأن الفلسطيني في مرحلة ما بعد 1993 وتشكيل السلطة الفلسطينية، أراد (الإسرائيلي) أن يتخذ من هذا الاتفاق أداة إضافية وفعّالة من أدوات حسم الصراع لصالحه، فيما الفلسطيني لا يرى في هذا الاتفاق وما وصل اليه إلا أداة لإدارة الصراع والحفاظ على السلطة، وكأنها هدف نهائي لثورة انطلقت قبل قرابة الستة عقود. فالمطلوب بقاء الحال على ما هو، وإنما الجهد يكون لمحاولة إبطاء الاستيطان أو تعليقه لبضعة أشهر لا وقفه وإزالته، وبترحيل السعي للسيطرة التامة على القدس ومسجدها وترحيل ساكنيها إلى وقت أبعد، والأهمّ إرضاء المانحين الدوليين لضمان تدفق المساعدات التي تُصرَف على الرواتب والسفريات وعمل السفارات في الخارج وغيرها من المصاريف التشغيلية.
لقد كان واضحاً عند من فاوض ووقع اتفاق أوسلو ومن قاد مفرزاته من سلطة وأمن أنّ الاتفاق ليس أكثر من حكم ذاتي محدود لا بل محدود جداً، لكن وعلى طريقة العمل الفلسطيني تمّ تجريع الفلسطيني هذا الاتفاق باعتباره انتصاراً مؤزّراً وسلام شجعان وحصيلة نضال القيادة الرشيدة، وأنه محطة سريعة لالتقاط الأنفاس، ثم السير باتجاه الدولة الفلسطينية وتحقيق الحرية والكرامة والديمقراطية والرخاء وما إلى ذلك من أوهام وأباطيل لم تصمد أمام الواقع المرّ الذي عاشه وعاناه الفلسطيني، حتى لو افترضنا حسن النية لدى القيادة فحسن النية صفة طيبة في العلاقة الاجتماعية الداخلية، ولكنها سذاجة مؤذية في العمل السياسي، تصوّر هؤلاء أنهم بتذاكيهم وفهلوتهم من الممكن إدارة عملية سياسية مع عدو مثل (إسرائيل) وأنهم قادرون على الاحتيال عليها وتحويل الاتفاق إلى دولة، لكن هذا التذاكي والارتجال واستعمال الأدوات القديمة المعروفة في العمل الفلسطيني لم يكن لها إلا أن تقود إلى أن يصبح الحكم الذاتي أكثر محدودية، والأخطر أنّ هذه الطريقة ساعدت (الإسرائيلي) على الإسراع في حسم الصراع.
لكن الأوضاع في فلسطين لا تسير بما يتوافق مع مخططات على الورق، ففي الجانب (الإسرائيلي) نرى أنّ الجمهور قد أخذ منذ عام 1977 ينحو باتجاه أكثر تطرفاً مما سارع في انقراض المؤسسات الحزبية (الإسرائيلية) القديمة التي أقامت الدولة وخاضت حروبها (حزب العمل)، منذ قرابة العقدين ومع تسارع التطرف، أصبح المتطرفون القدامى يظهرون بمظهر المعتدلين قياساً بالأجيال الجديدة منهم المشاركة في حكومة نتياهو ـ بن غفير الحالية والتي يعلن وزراؤها الحرب المفتوحة على الشعب الفلسطيني في استعجالهم لحسم الصراع، وخاصة الملفات الخمسة التي علقها اتفاق أوسلو وهي القدس والإستيطان وحق العودة (اللاجئون) والحدود والمياه.
في الجانب الفلسطيني المقابل، حالة من الشلل الرسمي وإلى حدّ كبير الفصائلي، لهاث رسميّ لإرضاء المانحين والذين يمرّ رضاهم عبر البوابة (الإسرائيلية)، مما خلق حالة من الإحباط لدى جيل فلسطيني جديد لم يعد يرى في السلطة وكثير من الفصائل إلا عبئاً عليه وعلى المسألة الفلسطينية، فكانت المبادرة بالمقاومة بمسؤولية فردية لا جماعية بالمعنى التنظيمي، هذا الشكل الجديد الفتي الذي يعمل بغير أسلوب الفصائل التقليدية والمستعدّ للقتال حتى الموت (الاستشهاد) وللاشتباك غير المتكافئ مع الجيش (الإسرائيلي) القوي ومن مسافات صفرية، ظاهرة عجيبة ذات قلب شجاع ولكنها تحتاج إلى عقل سياسيّ.
دروب السياسة التي تصل بين السلطة الفلسطينية والحكومات (الإسرائيلية) مقطوع، (فالإسرائيلي) حتى ما قبل حكومة نتنياهو ـ بن غفير، لم يكن يبدي رغبة لإقامة علاقة مع السلطة خارج المضمون الأمني، في المقابل لم يكن لدى السلطة ما تضغط به، لا بل ربما أنها لا ترغب أولاً وتعمل على مراكمة عناصر القوة والضغط بالذهاب إلى انتخابات أو مزيد من المشاركة بالسلطة، أو السعي الجاد للمصالحة الداخلية وعلى الأقلّ إدارة الانقسام، عند ذلك كان لا بدّ مما ليس منه بدّ، فتقاطعت الطرق الأخرى بين متطرفي الحكومة (الإسرائيلية) الذي يسرعون الخطى باتجاه حسم الصراع بدءاً من القدس وتقاسم المسجد الأقصى تمهيداً للاستيلاء عليه، وبإطلاق يد المستوطنين لالتهام مزيد من الأرض ومزيد من التطاول على الفلسطينيين وجعل حياتهم أكثر صعوبة، مع طريق جيل المقاومة الجديد الذي لم يعد يرى أنّ هناك مَن يمثلهم أو يدافع عنهم وعن مسألتهم الوطنية، فكانت حالة الحرب التي نعيش اليوم.
الأميركي المنشغل بملفات الحرب الروسية الأوكرانية وحربه الباردة مع الصين، يريد تبريد الجو في فلسطين وبالطبع على حساب الطرف الأضعف الفلسطيني، وهذا لا يتمّ إلا بضرب المقاومة ودعم السلطة المعتدلة وإلزامها بأوسلو ـ الأصل والذي حدّد وظيفتها باعتبارها حكماً ذاتياً وظيفته إدارة السكان وحفظ الأمن، فكانت قمّة العقبة، ما يجب استيعابه أنّ قمة العقبة هي امتداد طبيعي وتطور منطقي لاتفاق أوسلو، وكما في العقود الثلاثة الماضية من عمر الاتفاق، فهو يُلزمنا بتنفيذ كلّ ما علينا ولكنه لا يُلزم (الإسرائيلي) بشيء، فهو لن يتوقف عن اقتحام المدن وإنما زاد على اقتحامها بإحراقها وتدميرها، هذا ما رأيناه في حوارة وما سنراه في القريب.
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.