هل تعرقل التسويات قيام الدولة؟
ناصر قنديل
تطرح في التداول ثلاث نظريات من منطلقات مختلفة حول علاقة التسويات ببناء الدولة، لكنها تصل إلى استنتاج واحد مفاده أن التسويات تعرقل بناء الدولة وقيامها، النظرية الأولى تقول إن التسوية التي تقتضي إنجاز تفاهمات تجنب لبنان الانقسام حول ملف سلاح المقاومة هي مساومة جوهرية على مفهوم السيادة الذي لا دولة بدونه، وإن الفراغ أفضل من رئاسة وحكومة تقومان على قاعدة مثل هذه التسوية، وتقف القوات اللبنانية في طليعة هذا المفهوم. وتقول النظرية الثانية إن التسويات التي تقوم على تفاهمات تنتهي بتخفيض سقف الإصلاح وتضعف الاندفاعة المطلوبة في مكافحة الفساد، هي تعطيل فكرة الدولة وفرصة قيامها، وإن البقاء خارج التسويات التي تنتهي بهذه الخلاصة ولو أدى الى إطالة أمد الفراغ الرئاسي والحكومي، خير من الانخراط فيها، ويشكل التيار الوطني الحر القوة الرئيسية التي تحمل هذا المفهوم. بينما تتناول النظرية الثالثة حكومات الوحدة الوطنية وتعتبرها نوعاً من أنواع التسويات التي يضيع معها جوهر الديمقراطية. وتعتبر هذا النوع من الحكومات تعطيلاً لمسار الممارسة الديمقراطية، وتغييباً لهوية الحكومة وبرنامجها، ويلتقي كل من التيار والقوات في مراحل مختلفة وكل من موقعه على تقديم هذه المقاربة.
لن نناقش ما يقدّمه كل طرف في توصيف منطلقاته السيادية أو الاصلاحية، تسهيلاً لمناقشة النظرية بذاتها، بعيداً عن السجال حول صدقية انسجام الهوية السيادية مع تبني أطروحات ذات منشأ خارجي حول سلاح المقاومة، لا ينفي من يحملها في الداخل أنه يأخذ في حساباته السلبية نحو السلاح ما يعتبره حاجة وطنية لاسترضاء هذا الخارج، الذي يسميه المجتمعان العربي والدولي، وكذلك بعيداً عن السجال حول كيف يستقيم التوصيف الإصلاحي مع خطاب حقوق الطائفة، والتمسك بحصتها في مؤسسات الدولة، ورفض الدعوات لتخفيف وطأة التوزيع الطائفي في ما هو دون الفئة الأولى وفقاً لما ينص عليه الدستور، تحت شعار الحاجة للتوازن. ومعلوم أن المحاصصة التي تبدأ طائفية وتنتهي حزبية، قيد ثقيل في عنق الدولة ومشروع بناء مؤسساتها.
سنناقش الفكرة المجرّدة فقط، ولنتخيل نجاح الفريق الذي يدعو لرفض التسويات حول سلاح المقاومة، بإيصال رئيس وتشكيل حكومة وفقاً لهواه، ونتساءل هل النتيجة الأقرب ستكون صناعة تسوية من موقع تفاوض مختلف أم المواجهة مع السلاح، فإن كان الخيار تسوية أخرى، فهذا يكشف نفاق المزاعم بتوصيف التسوية عائقاً أمام قيام الدولة، ويكشف أن المطلوب هو تسوية معينة من موقع يمسك فيه هذا الفريق بمؤسسات الدولة ليفاوض عليها، ويكفينا هنا أن النظرية تسقط لأن النهاية هي تسوية. والقول إن هذه التسوية تفتح الطريق لبناء الدولة، وكي تستقيم النظرية يجب رفض كل تسوية، وهذا يعني الذهاب إلى المواجهة، والسؤال في ظل ما نعلمه حول موازين القوى، وتركيبة المؤسسات العسكرية والأمنية على أساس طائفي، هل يمكن للمواجهة أن تعني شيئاً آخر غير تفكك الدولة، انطلاقاً من مؤسساتها الأمنية والعسكرية مروراً بجغرافية مناطقها، وصولاً الى خطر الحرب الأهلية، فهل هذا طريق لقيام الدولة أم طريق لإسقاطها؟
ولنناقش فرضية التسوية حول مفهوم وحدود الإصلاح، وهي تعني بالتحديد وضع شرط حكمي على أي برنامج للحكومة الحفاظ على نصاب أغلبية عابرة للطوائف تتبناه، ولو توافرت له أغلبية نيابية كافية لنيل حكومة ثقة أو تشريع القوانين، وهي أغلبية يمكن توافرها بتجاهل تمثيل طوائف كبرى، وتجربة لبنان تقول إن تركيبة الدولة على أساس طائفي سرعان ما سوف تحول الفرضية الإصلاحية إلى عملية استبدال في الوظائف الحسّاسة لممثلي فريق سياسي طائفي بممثلي فريق سياسي طائفي آخر، وإلى تحوّل الملاحقات القضائية باسم مكافحة الفساد الى عمليات استهداف سياسية وطائفية، مهما تنزّهت الإرادات وصفت النيات، لأن بنية المؤسسات القضائية والإدارية والأمنية محكومة بتوازنات طائفية يشكل تحريرها من تأثير هذه التوازنات تشجيعاً على جموح يصعب قمعه، كما تقول كل تجارب لبنان المماثلة التي انتهت اما الى مشاريع حروب أهلية، أو الى إعلان صاحب المشروع الإصلاحي فشل مشروعه، ولنتذكر أن الرئيس كميل شمعون نظم انتخابات عام 1957 التي أنتجت حرب الـ 58 تحت شعار إصلاحي، وان سياسات الحكومة الأولى في عهد الرئيس أميل لحود والرئيس سليم الحص أنتجت في انتخابات العام 2000 فوزاً ساحقاً لمن كانت تحاربهم تحت عنوان الإصلاح، وإن عهد الرئيس الإصلاحي الأبرز في تاريخ لبنان الرئيس فؤاد شهاب انتهى بسيطرة مخابرات الجيش على الحياة السياسية، حتى صارت عودة القيادات التقليدية الى السلطة مع انتخاب الرئيس سليمان فرنجية عام 1970 تقوم على وعد إنهاء حكم الشعبة الثانية.
أما النظرية الثالثة التي تدين حكومات الوحدة الوطنية، بداعي أنها تخلط الموالاة بالمعارضة، فشرط الأخذ بها هو أن يكون للموالاة الحاكمة نصاب وازن في كل الطوائف، والا تحولت الأغلبية الحاكمة ذات أرجحية طائفية، والأقلية المعارضة ذات أرجحية طائفية أخرى. والأمر هنا ليس بوجود أو عدم وجود عدد من النواب من كل الطوائف على ضفتي الموالاة والمعارضة. فالحقيقة هي أن الطوائف هي الجماعة السياسية الحيّة في لبنان منذ تشكيل الكيان عام 1920 وتسميته بلبنان الكبير، وعندما تصطفّ الزعامات الأولى في الطوائف على ضفتين متقابلتين يصبح الاحتكام لمعادلة أغلبية وأقلية تعريضاً للسلم الأهلي للخطر.
تقول التجربة اللبنانية إن سنوات الحروب الأهلية والأزمات الوطنية والفراغ الرئاسي والتعطيل الحكومي قطعت مسارات هادئة من الاستقرار، كان استمراره كافياً لترسيخ الحياة الوطنية، وفتح طرق لتقدم مسيرة بناء الدولة تبقى أضمن من مغامرات تنسف الاستقرار، فبطء الدولة القائمة على التسوية والضامنة للاستقرار طريق مضمون لقيام الدولة بينما العبث بالاستقرار والتوازنات الطائفية بداعي الديمقراطية أو الإصلاح أو السيادة، وصفة لتضييع الديمقراطية والإصلاح والسيادة.