مستقبل الوحدات الدولية بعد عام على الحرب الروسية ـ الأوكرانية
بتول قصير
قد لا نبالغ إذا وصفنا الحرب الروسية ـ الأوكرانية بأنها أهمّ وأطول الحروب فى العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. صحيح أنها صراع يتمحور في نطاق دولتين طبقاً للرؤية العسكرية، إلا أنها تحوّلت الى حرب عالمية من حيث التأثير على السياسة العالمية وموازين القوى والوحدات الدولية.
تعود الأزمة الغربية الروسية حول أوكرانيا الى ما قبل العقد الماضي، وترجع إلى عودة روسيا إلى دور دولي ناشط، واستعادة دور موسكو دولياً، والتوجه لإسقاط «لحظة الأحادية» الأميركية.
نستذكر عندما كانت روسيا وأوكرانيا ضمن دولة واحدة هي الاتحاد السوفياتي، خلال تلك الفترة أهدى رئيس الوزراء السوفياتي الأسبق خروشوف أوكرانيا شبه جزيرة القرم، التي كانت تابعة لروسيا، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، قامت روسيا عام 2014 بضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا بالقوة، بعد إجراء استفتاء بين أهالى المقاطعة. دقت روسيا ناقوس الخطر مع إعلان أوكرانيا أنها سوف تنضمّ إلى حلف الناتو، لاحتمالها وجود قوات من 28 دولة على حدودها ليصل النفوذ الغربي إلى الحدود الروسية، وهو الأمر الغير مسموح بالنسبة لروسيا، والذي أدّى الى اندلاع الحرب في 24 شباط من العام 2022 الماضي، حققت روسيا فيه تقدّماً ملحوظاً في مسار المعارك الدائرة.
اليوم، افتتحت الحرب عامها الثاني، ولا يُعرَف بعد ما إذا كان هذا العام الجديد هو عامها الأخير أم أنها ستمتدّ لأعوام أخرى. فالحرب التي تعدّدت أطرافها، تداعياتها لم تعد تقتصر على طرفيها الرئيسيين، اذ امتدّت لتؤثر على العالم بأسره، وفي مجالات مختلفة، بداية من الطاقة وانتهاءً بالأمن الغذائي.
اللافت في تداعيات هذه الحرب، انها أعادت الاهتمام الدولي بمنطقة الشرق الأوسط من جديد، في ظلّ تطلع العديد من القوى الدولية إلى توسيع هامش خياراتها المتاحة للتعامل مع ارتدادات الحرب. وعززت موقع كثير من القوى الإقليمية، لا سيما العربية، خاصة على صعيد الأمن الطاقوي.
وفيما يبدو انّ الحرب التي تتخذ بعد النفس الطويل وعدم ظهور ملامح للتسوية حتى الآن. بحيث انّ الغرب يراهن على انهيار الاقتصاد الروسي وتذمّر الشعب الروسي من الحرب لكنّ بوتين أحسن استخدام موارد الطاقة وخصوصاً الغاز في المحافظة على اقتصاده واستقرار العملة الروسية الروبل. كما أنّ الشعور الوطني الروسي ارتفع وبات بوتين يحوز تأييداً شعبياً أكثر مما كان في بداية الحرب. بالإضافة الى عدم إرغام روسيا على وقف العمليات العسكرية، أو على عدم مهاجمة البنية التحتية العسكرية التقنية لأوكرانيا، أو على سحب قرارات ضمّ كيانات جديدة. ولم تحدث انتفاضة من قبل الأوليغارشيين الروس، ما يعني نجاة روسيا من السقوط الذي كان يعدّه لها. خاصة مع تفوّقها العام في مسألة التوازن الاستراتيجي والموارد البشرية.
وعليه فإنّ مسار الحرب والصمود الروسي الذي فاجأ الأطراف كافة، عزز مخاوف الولايات المتحدة ومعها دول الناتو من تحوّل روسيا الى قطب ثانٍ في العالم، خاصة أنّ مظلة أوكرانيا ودول البلطيق التي تطبق على روسيا وتضيّق الخناق عليها ستنهار عندما يحقق بوتين شروطه، ما يعني الاتجاه لخيار التسوية مع روسيا عندما تعترف أوكرانيا والدول الأوروبية المنصاعة للولايات المتحدة بالانهاك، وتحديداً مع اكتشاف أوكرانيا نفسها انها بين المطرقة والسندان، ما يعني الهزيمة الكاملة لنظام كييف النازي الموالي للغرب.
وحقيقة الأمر انّ أوكرانيا محكوم عليها بالفشل في هذه الحرب من جميع وجهات النظر، بل وأكثر من ذلك تعدّ هي الخاسر الأكبر، في حين انه لا يمكن لروسيا أن تخسر، لأنّ خطها الأحمر هو هزيمتها ومن ثم سيخسر الجميع.
حاول زيلينسكي مراراً استمالة شركائه الغربيين ورعاته لتوجيه ضربة نووية ضدّ روسيا بعد سقوط صاروخ أوكراني على الأراضي البولندية. وهو ما اعتبره شركاؤه بالساذج، ويبدو انّ زيلينسكي تعدّى بأحلامه الخطوط الحمراء، بعد إمداد الغرب له بالأسلحة والمال، بالإضافة الى الدعم الإعلامي والسياسي، لكن استخدام النووي؟ الجواب واضح جداً وبغض النظر عن مدى تعصّب أنصار العولمة والعالم الأحادي القطب والحفاظ على الهيمنة بأيّ ثمن، الذين يحكمون هناك اليوم، ما لا يعتقده عاقل هو التوجه إلى تدمير البشرية من أجل صرخة الحرب النازية الأوكرانية «المجد للأبطال»! حتى بخسارة أوكرانيا بأكملها، فإنّ الغرب لا يخسر الكثير، وبالطبع سينهار نظام كييف النازي وأحلامه بعظمة العالم.
وعليه فإنّ التقييم النظري للتحوّل الذي أحدثته الحرب في أوكرانيا في فضاء العلاقات الدولية يتكشف بالتالي:
في ما يتعلق بالوحدات الدولية، كشفت الأزمة الأوكرانية عن حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به الأطراف الأساسية في النظام الحالي، مثل روسيا الاتحادية التي حرّكت الأحداث وكانت المبادر بالفعل في الكثير من تحوّلاتها، سواء في مرحلة ما قبل الحرب أو أثناء الحرب. وفي المقابل، برز دور الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها؛ حيث وجدت في الحرب تهديداً كبيراً للكثير من قيَمها ومبادئها ونموذجها الحضاري، بل وفي مرحلة من مراحل الحرب، وجدت فيها تهديداً حقيقيّاً لوجود العديد من الدول والأطراف في المعسكر الغربي، وفي مقدمتها دول أوروبا الشرقية سواء التي انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي أو إلى حلف الناتو بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. وفي إطار الوحدات الدولية في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية، يمكن القول إنّ هناك احتمالات قوية بظهور دول جديدة، وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل الأزمة، وقد نشهد اتجاهاً نحو بناء تحالفات جديدة قد تصل في بعضها إلى درجة الاندماج، وخاصة بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) التي قامت بتفعيل المادة (4) من ميثاق حلف الناتو في ما بينها، أمام ما وجدته من تهديدات وجودية لأمنها واستقرارها. أما بالنسبة لروسيا فالواضح انّ نموذجها تغيّر من الواقعية إلى نظرية عالم متعدّد الأقطاب، ورفضت الليبرالية بشكل مباشر بجميع أشكالها، وتحدّت بشكل مباشر الحضارة الغربية الحديثة، وسمتها بالحضارة الشيطانية صراحة.