سهرة مع نساء عدن
} د. ريم عبد الغني*
سهرة عدنية دُعيت إليها في مدينة عدن ـ جنوب اليمن، قبل سنوات، ويومها كتبتُ في مفكرتي:
ما إن خطونا داخل الفيلاً البيضاء، حتّى لفّتنا رائحة البخور العدني المميّز، وانهمرتْ قطع شوكولاتة صغيرة فوق رؤوسنا. كانت هذه «الفولة» ترحيباً بي، وهي عادة عدنيّة، يحتفل الناس فيها بعودة المسافر، كانتْ في الأصل نوعاً من تعويذة تُلقى في البحر من أجل عودة المركب سالماً، إلى أن وصلتْ إلى شكلها الاحتفالي اليوم.
المكان بسيط ومريح. قاعة استقبال واسعة، فيها أرائك شرقيّة منخفضة كثيرة الوسائد المزركشة.
من النوافذ الزجاجيّة الواسعة التي احتلّت جدارين من الصالة، بدا انعكاس أضواء عدن على بحرها الهادئ. كان البيت يحتلّ ركناً مطلاً على البحر من كريتر، عدن الأولى.
بدايّة طيّبة تلاها ما هو أجمل، إذ فوجئتُ بأمّ صلاح تنحني لتُلبسني جرز (عقد) فلّ كبير. لم أرَ فلّاً كهذا قَطُّ في حياتي.
حاصرني عبقه. شعرتُ بي في واحة فل. كانت هي أيضاً ترتدي مثله، وكذلك بعض السيّدات. قيل لي إنّه من الفلّ اللحجي، أجود أنواع الفلّ. ويُقال إنه جاء من «الهند»، ناقلاً معه بعض التقاليد الهنديّة، كارتداء العروسين لجرز فلّ يوم العرس، ورشّه عليهما في أثناء الزفّة، ووضعه ضمن جهاز العروس.
ثم تبادلنا الحديث. فرصة طالما انتظرتها «لأرى» المرأة العدنيّة من قرب.
في المجلس الطويل قاضيات ومحاميات وأستاذات جامعيّات وربّات بيوت مطّلعات ومعلّمات محجّبات وسافرات. مزيج من كلّ الأطياف.
كان النقاش ممتعاً، ينعش العقل ويحترمه، فتشعر بأنّك «على قيد التفكير».
لم يُفاجئني الأمر، فالمرأة العدنيّة كانت دائماً رائدة في اليمن. دخلتْ مختلف المجالات، وأصرّت على تأدية دورها الكامل في المجتمع.
عبّرتُ لمضيفتي عمّا يجول في خلدي، وفتح هذا حديثاً تشاركنا فيه بحماسة لنقل الصورة كاملة.
قالتْ أم صلاح:
«أجل المرأة العدنيّة لها حضورها، وهذا بفضل من سبقننا، وأولاهن السيّدة نور حيدر رحمها الله التي طرقت الأبواب لإقناع الأهالي بتعليم الفتاة، يوم كانت المرأة «تخرج من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ومن بيت زوجها إلى القبر»، وكانت بداية الأربعينيّات قد شهدت إنشاء مراكز لإعداد المعلّمين والمعلّمات، وكذلك إذاعات ونوادي، منها «نادي نساء عدن» الذي كان أساس تشكيل الحركة النسائيّة في عدن».
وقالت بارعة، وهي محامية معروفة: «تعرفين؟ في تلك المرحلة كانت أغلب اليمنيّات، يعانين الجهل والأميّة، لكن الوعي كان قد بدأ يتسلّل مع أفكار القوميّة العربيّة، التي أتتْ مع رياح الثورة المصريّة وأفكار الثورة الروسيّة وحزب البعث، فتشكلت الجمعيّة العدنيّة للنساء عام 1957م، برئاسة السيّدة سعيدة باشراحيل، واشتركتْ مناضلات تنظيم الجبهة القوميّة في إنجاح العديد من العمليّات الفدائيّة. وفي عام 1959م، خلعت ستّ نساء من أعضاء النادي الملاءة السوداء «الشيدر»، وخرجن سافرات الوجه في شوارع عدن، ما أدّى إلى إغلاق النادي، وتغيير اسمه إلى «جمعيّة المرأة العربيّة» برئاسة رضيّة إحسان الله.
وبالمناسبة، فقد ثارت المرأة اليمنيّة مراراً على الشيدر، ففي 1972م طالبت «الأيّام السبعة المجيدة»، بتأميم المساكن وتخفيض الرواتب وحرق الشيدر، ونجحنا في التخلّص منه. وفي عام م1976، في مناسبة اليوم العالمي للمرأة، نُظّمت تظاهرات كبرى لإلغاء حجاب الوجه. لكنّنا عدنا إليه للأسف بعد الوحدة.
شهدت بداية ستّينيات القرن العشرين تطوّراً في مسار تعليم المرأة هنا. وفي عام 1962م، تظاهرت طالبات كليّة البنات للمطالبة بتعريب التعليم، وفتح المجال لحصولهن على شهادة الثقافة العامّة، ما أدّى إلى اعتقال بعضهن.. كنّ شجاعات».
وباعتبارها كاتبةً، تعرف أهميّة الكلمة ودورها الخطير في أيّ تغيير، سألتُ أمينة الصحافيّة المخضرمة: «وماذا عن القلم النسائي في عدن؟»
تجيب أمينة: «في البداية، انقسمت الصحافة بين داعمة لقضايا المرأة كصحيفة «فتاة الجزيرة»، أو مؤيّدة لبقاء المرأة في البيت، كصحيفة «الذكرى». ثم بدأت المرأة العدنيّة بالتعبير عن نفسها بأسماء مستعارة، إلى أن ظهرتْ أوّل صحيفة نسائيّة «فتاة شمسان» عام 1960م، ثم تأسّس اتحاد نساء اليمن عام م1968. ونجحنا، بفضلهن جميعاً، في تطبيق قانون الأسرة الذي صدر عام 1974م وأنصف المرأة في جوانب كثيرة، منها منع تعدّد الزوجات، وبقاء البيت للمرأة في حالة الطلاق».
تدخّلتْ فوزيّة، لتكمل عن مرحلة عاشت تفاصيلها: «كفاحهن لم يكن وحده كافياً، أنا مقتنعة بأنّ يداً عُليا يجب أن تدعم أيّ تغيير، من صنّاع القرار، كما حدث في تونس. ألم يفتح الرئيس بورقيبة الأبواب لإنصاف المرأة التونسيّة، التي حازت حقوقها أكثر من المرأة في الدول الأخرى؟ منع تعدّد الزوجات، ومنح المرأة حقّ طلب الطلاق، ورفع سنّ الزواج للبنات، كسبت أكثر حتّى من المرأة الأميركيّة، التي سوّق الإعلام لوهم تحرّرها، وبينما ما زالت تُوضع ـ هي والزنوج ـ في بعض الإحصاءات في خانة منفردة، لأنّ العنصريّة ما زالت تُمارس ضدّ الاثنين في أميركا، وضدّ العديد من الفئات، كالمسلمين والمهاجرين، ولا سيّما العرب والمكسيكيّين والهنود وغيرهم».
تذكرتُ أنّي ـ في منتصف التسعينيات ـ زرتُ تونس، ورُتبت لي زيارة للاتحاد النسائي، وكانت رئيسته يومذاك السيّدة فائزة كافي التي حدثتني عمّا وصلت إليه المرأة التونسيّة، حتّى إن بعض الرجال في تونس ـ كما أضافتْ مازحة ـ يطلبون الانتساب إلى الاتحاد النسائي، للحصول على مزيد من الحقوق. وبالمناسبة، فالمرأة التونسيّة ـ إلى تاريخ كتابة هذه السطور ـ هي المرأة العربيّة الوحيدة، التي يحقّ لها قانوناً منح جنسيّتها لأولادها. رحم الله الرئيس بورقيبة.
وهنا في عدن، ساعد النظام أيضاً على تحرير المرأة، فخلال سبعينيّات القرن العشرين، تسلّل جوّ التحرر العالمي إلى عدن عبر الماركسيّة التي تبنّتها الدولة. كان الاختلاط مسموحاً، وكانت الميليشيات الشعبيّة والجيش والشرطة تستقبل الفصائل النسائيّة في صفوفها. ووصلت المرأة في الجنوب إلى كلّ المناصب، حتّى القضاء.
أسأل بفضول: «لماذا إذاً تدهور وضع المرأة لاحقاً؟ لماذا لا نرى اليوم للمرأة اليمنيّة الحضور المتوهّج نفسه؟ لماذا تمتلئ شوارع عدن ب «الخيام السود»؟ أين أصواتهن؟ لا نسمع إلا أصواتاً ضعيفة، تصدر على استحياء، بين الفينة والأخرى، من هنا أو هناك.
محزن أن تتراجع مسيرة النساء في أيّ مكان من العالم، بعد أن بُذلت تضحيات جمّة مقابل كلّ خطوة إلى الأمام، تظاهرات خبز وورود بُذلت من أجلها دماء ودموع، خصوصاً أنه ما زال أمامنا الكثير.(عام 1856م، احتجت آلاف النساء في شوارع نيويورك، على الظروف غير الإنسانية لعملهن، وفي 8 مارس 1908م، تظاهرت آلاف عاملات النسيج في نيويورك، حاملات خبزاً وباقات ورود، الورد للحب والتعاطف، والخبز يرمز إلى حقّ العمل والمساواة فيه. كانت هذه بداية حركة «الخبز والورد» النسوية داخل أميركا. واعتمدت منظمة الأمم المتحدة اليوم العالمي للمرأة، لأول مرة، عام 1977م، رمزاً لنضال المرأة وحقوقها).
تعزو أم صلاح، بحزن، السبب إلى السياسة:
«أجل للأسف تراجع مركز المرأة اليمنيّة في السنوات الماضية، وفقدتْ كثيراً من مكتسبات ضحّت لأجلها النساء قبلنا، ومنها تجميد قانون الأسرة اليمني الذي كان معمولاً به في جنوب الوطن، مع غيره من القوانين والإجراءات التي كانت تحترم المرأة.
خسارة للمرأة اليمنية… أما عن نضال المرأة عموماً، فرغم التطور الكبير في الحضارة الإنسانية، لا يزال هناك بون فاصل بين الرجال والنساء في كثير من النواحي، حتى في الدول المتقدمة، وقد توقع المؤتمر الاقتصادي العالمي «دافوس» ألا تغلق هذه الفجوة تماماً إلا بحلول عام 2186م…
ليس لنا إلا أن نأمل… ونعمل…
*مهندسة معمارية، رئيسة مركز «تريم» للعمارة والتراث