السعودية تصفير «المشاكل».. وذكاء الاستراتيجية مصدر سعوديّ «وداعاً للماضي»
} روزانا رمّال
ربما بدأت الأمور من لحظة «الصفر» لولاية حاكم جديد لكنها يوماً بعد الأخر بدت رؤية متقنة الأهداف ومنتقاة الادوات. وها هو ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يطرح جدول اعمال «جديداً» في المنطقة لا يشبه لا من قريب ولا من بعيد سياسة «أسلافه»، وهو بأي حال من الأحوال نقطة تحدٍّ وخلاف خصوصاً لحلفه التاريخي مع الولايات المتحدة الأميركية.
سوء العلاقة مع الادارة الأميركية الديمقراطية وتحديداً إدارة الرئيس بايدن مهما تجملت وغلفت بثوابت استراتيجية بديهية لم تلغ ضبابية الوضع ولم تغير في المشهد أن ندرة اللقاءات بين الرجلين محط استغراب وبأنها ليست سوى تأكيد على استثنائية العلاقة التي لم يسبق لرئيس أميركي أن واجه مثلها مع ملك او ولي عهد سعودي. والحال هذا لم يتحسن مع تقدم الوقت بل إن الصدام تعمق لحظة النطق بالخيارات الكبرى وتحديداً بما يتعلق بإنتاج النفط لحظة اشتعال النار في اوكرانيا..
خطت السعودية خطوة باتجاه قلب المعادلة الاستراتيجية والاقتصادية وابن سلمان القادم على حصان التحديث الاقتصادي والتطوير البنيوي لا يبدو أنه مكترث لصناعة النفوذ على حساب التطوير كما جرت العادة في الســياسات السعودية السابقة، بل إن الدور السياسي بالنسبة اليه على اهميته يكرس من بوابــة التنمية الاقتصادية المحورية على مستوى الإقليم والعالم وفي اللحظة التي كانت فيها المملكة واقعة ضمن مظلة خيارات وسياسات أميركية أخذت ابن سلمان نحو خيارات مغايرة في سورية واليمن والعراق في السنوات الماضية, انقلاب شبه كامل واعادة تحديث وتنظيم سياسي وبنيوي ضمن الفريق الحاكم والرؤيا ككل مكنته من إرساء جدول اعمال جديد ونهائي.
سياسة تصفير المشاكل:
غالباً ما يترافق مصطلح «تصفير المشاكل» مع التطوير الاقتصادي الشامل حيث تحجز الدول مكانها من بوابة الاقتصاد، وعلى الطريقة التركية ما قبل الحرب السورية اتخذت انقرة من هذا الخيار عنواناً عريضاً ما لبث أن انقلب صاحب الشعار عليه وزير الخارجية داوود اوغلو آنذاك بعد انخراط تركيا في الحرب السورية.. «تصفير المشاكل» سياسة تبنّاها حكم العدالة والتنمية في 2002 وحتى الثورات العربية في 2011 بعدما هندس السياسة الخارجية التركية أحمد داود أوغلو على هذا الأساس وروّج للنظرية في كتابه «العمق الاستراتيجي»، معتبراً أن الدولة التي تعيش أزمات وتوترات مع الجوار ستبقى مستنزفة ولن تنعم بالاستقرار ولن تحظى بالتنمية.
من خلال هذه السياسة بنت تركيا ضخامة الحضور المالي والاقتصادي في الإقليم ودخلت من بوابة هذا الدور الاقتصادي في الخرق السياسي والنفوذ الإقليمي بعد حين بغض النظر عن تداعيات خوضها في الحروب والأزمات…
الاستراتيجية السعودية التي تقوم على رفع مستوى التطوير والتحديث ورؤئ تخطت العام 2030 بحدودها وامتدادها تطلب هذا النوع من التركيز والتصفير. فالوقت هو للبناء ونسف الموروثات السياسية والاقتصادية والأهم الثقافية المتزمتة التي حاصرت البلاد في دوامة لم تعد تتماشى مع الطموحات الجديدة.
بين لبنان وسورية والعراق وحتى اليمن خفوت في الدور السعودي واعتبارها ملفات ثانوية غير طارئة وانسحاب لجهة التركيز في التطوير الاقتصادي مع صقور المال والريادة في العالم.. دول بحجم قارات بالإنتاج والتصدير للنفط والموارد الطبيعية تقوم عليها مرحلة تنمية مستدامة لأكثر من عشرين عاماً والكلام عن الصين وروسيا وإيران وتعزيز للعلاقات مع تركيا.
إعلان الصين نجاحها بلعب دور وسيط بين ايران والسعودية وحده كمن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد فهو بداية لذلك «التصفير» الذي يشمل تهدئة على أكثر من جبهة يمنحها هذا الاتفاق بما فيها ملفات العراق وسورية واليمن ولبنان كل ذلك مرّ تحت مظلة صفقة اقتصادية هي الأضخم بين تاريخ الصين والمملكة العربية السعودية وعلاقة متينة عززتها الحاجة للتوافق على شكل ادارة مرحلة انتاج النفط اثناء الحرب الاوكرانية التي منحت للحضور السعودي ما يشبهها أكثر في السياسة الجديدة وهي دور الوسيط في حل النزاعات وتحديداً الاوكرانية – الروسية كما اعلن مؤخراً.
لكن كل ذلك يجري بدقة، فالمملكة لا تزال الجهة المقبولة لدى اوكرانيا وروسيا معا، وفي الوقت الذي تحرص فيه على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع خصوم الولايات المتحدة التاريخيين فإنها لا تسعى لفتح أزمات مع الغرب من جهة أخرى.
وبالعودة الى تصفير المشاكل ولعب دور الوسيط من بوابة الاقتصاد دخلت الرياض بذكاء استراتيجي بوابة تركيا من خلال ضخ وديعة في مصرفها المركزي الذي يعاني من أزمة مالية، فيما يبدو رسالة في أكثر من اتجاه فمقارنة بالاندفاعة باتجاه روسيا والصين والانفتاح على سورية, حرص على التوازن بالملفات لا سيما الازمة الاوكرانية والحساسية الغربية والأميركية حياله.
الاتفاق السعودي الإيراني وإعادة فتح الســفارات هــو تطبــيع كامل للعلاقات وبدون شك فهو خــطوة سعودية مبنــية على تفاهمات أخرى تتقدم ايران باتجاهها وآخرهــا اعــلان التعاون مع وكالــة الطاقــة الذرية وتواصل مع دبلوماسيــين أميركيــين لاعادة احيــاء التفــاهم النووي القادر على تعزيز الاستقرار، اذا ما وقع بدوره فــي الشــرق الاوسط، لان الاتفاق هذه المرة اذا تم فهو ضمن الترحيب والرضــى السعودي والعربي والعلاقات الطبيعية الدبلوماسية مع ايران على عكس المرة السابقة.
ختاماً يقول مصدر سعودي متابع لـ»البناء « لا تقيموا سياسات السعودية الخارجية بقياس الماضي فكل الثوابت السياسية القديمة تخلى عنها الأمير محمد بن سلمان واضعاً سياسة جديدة تتكون من عبارة واحدة فقط مصلحة «التطوير والنهوض بالمملكة».