الثلاثية الصينية السعودية الإيرانية تحول استراتيجي في المنطقة
ناصر قنديل
لا يستطيع أحد أن يزعم أنه كان يتوقع حدوث ما حدث، حتى الذين كانوا يتوقعون التلاقي السعودي الإيراني، كانوا ينتظرون الخطوة من بغداد أو مسقط أو الدوحة، وهذا المستوى من التلاقي يبقى التفاهم ضمن إطار المعادلات الاستراتيجية التي حكمت المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث الحركة السعودية وما تمثل من وزن في العالمين العربي والإسلامي، مسقوفة بالمظلة الأميركية. وعندما نقول إن لا أحد يستطيع الادعاء بأنه كان يتوقع، نقصد بالتحديد، أن تتم التفاهمات السعودية الإيرانية تحت المظلة الصينية. ومن يتابع التصريحات الأميركية والإسرائيلية يشعر بحجم الارتباك الناجم عن البيان الصيني السعودي الإيراني، الذي يبدو من التعليقات ودرجة الارتباك فيها أن واشنطن وتل أبيب تبلغتا البيان من وسائل الإعلام، ولو أن واشنطن تقول إنها كانت في صورة التوجه السعودي، لكنها تفاجأت بالدور الصيني، وهي ترفق في بيان لمجلس الأمن القومي تعبيرها عن الامتعاض، باالقول «لم يكن لنا دور في الاتفاقية» و»نراقب عن كثب النفوذ الصيني في المنطقة»؛ بينما تقول «إسرائيل» بلسان مصدر أمني كبير»إن الاتفاق سيؤثر على فرص تطبيع العلاقات مع السعودية». ويواكبه كلام للرئيس الأميركي جو بايدن يتحدث عن «معيار التطبيع بين العرب وإسرائيل» للاستقرار في المنطقة، وهو يعلق على التفاهم السعودي الإيراني.
اللقاء الذي تمثلت فيه السعودية وإيران بالشخصيات الأولى المسؤولة عن الملف الأمني، تحت رعاية الرئيس الصيني، وبثلاثة تواقيع سعودي وإيراني وصيني، يأتي امتداداً لما أعلن من علاقات استراتيجية بين السعودية والصين، وتعاون اقتصادي بنصف تريليون دولار، وعلاقات استراتيجية صينية إيرانية واستثمارات بقيمة موازية، وهذا يجعل المثلث الصيني السعودي الإيراني مثلثاً معنياً بأمن الخليج، بصفته مورد الطاقة الأهم في العالم، يحاول منافسة الدور التقليدي الأميركي القائم على ادعاء ضمان أمن الطاقة من البوابة الخليجية، وإذا كان موقف إيران من الدور الأميركي في الخليج معلوماً ومفهوماً، فإن الجديد هو ما يظهره الموقف السعودي من سعي لبناء موقع مستقل بنكهة عالمية لدور السعودية في سوق الطاقة، ينظر بعين مرجعية دولياً لهذا الدور، حيث روسيا شريك الإنتاج الأول، والصين زبون أول، وإيران شريك إنتاج، لكنها شريك الأمن الأول، والخطوة ليست عادية بمنح الصين موقع ودور الراعي لأمن الطاقة، بصفتها المستهلك الأول؛ وهذا يعني وجود مشاريع مشتركة بين أضلاع المثلث الجديد، تشبه شراكة الثلاثي الروسي الإيراني التركي، ومهمة المثلث الجديد اقتصادية وليست فقط أمنية، حيث وصلت خطة الحزام والطريق الى ضفتي الخليج بصورة منفصلة وتقوم بربطهما معاً الآن، وربما تخطط لموانئ دوليّة عملاقة لتصدير النفط والغاز منهما.
اللاعب الإقليمي المقابل لإيران والمنافس لها على كسب التفاهمات في الخليج هو كيان الاحتلال، الذي يعيش أسوأ أيامه، والذي يفقد مع هذا الاتفاق أهم رهاناته في العقد الأخير، ببلوغ التطبيع الذي بدأ مع دول خليجية الجدار السعودي والنجاح في اختراقه رسمياً وعلناً، لأن الاختراقات القائمة والقديمة لا تحقق المطلوب، طالما أنها موضعية وتحت الطاولة، وخسارة كيان الاحتلال لرهان التطبيع ليست شأناً عادياً في المنازلة القائمة بين إيران وإسرائيل»، كيف إذا أضيف إليها سقوط رهان آخر لا يقلّ أهمية، هو الرهان على الفتنة السنية الشيعية، حيث تمثل إيران والسعودية الزعامتين الكبيرتين للمذهبين اللذين تراهن «إسرائيل» أن تعيد شراء أمنها بإشعال الحرب بينهما. وتكفي نظرة على العقد الماضي لنعرف أن كل حروب التآكل والفتن التي عصفت بدول المنطقة وفتت وحدة شعوبها وهدّدت أمنها وسلمها الأهلي، وصعدت خلالها التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي استثمرت على أدوارها «إسرائيل» في صناعة جدران حماية أمنية لكيانها، قد ارتكزت على الاستثمار في الصراعات المذهبيّة بين السنة والشيعة، انطلاقاً من الخلاف الإيراني السعودي.
في المنطقة ملفات كثيرة تنتظر التبريد، ولا يعني ذلك بالضرورة حلولاً تصنعها مبادرات متفقٌ عليها بين إيران والسعودية، خصوصاً مع تمسك إيران بعدم الدخول في مفاوضات بدلاً من حلفائها، لكن عندما تزول من الحسابات السعودية معادلة المواجهة مع إيران في كثير من الملفات، مثل اليمن وسورية ولبنان والعراق، ويتم تبريد خطاب التوتر المذهبي وتداعياته السياسية، تزال عقبة كبرى من طريق صناعة التسويات على المستويات المحلية من جهة، ولا تعود هذه التسويات المنصفة للقوى المحلية الحليفة لإيران، تراجعاً أمام إيران، ويصبح ممكناً للسعودية الإقدام على بحث الأزمات المحيطة بعلاقاتها بالقوى الفاعلة في هذه الساحات بقياس مختلف، ولا تعود القوى المرتبطة بالسياسات السعوديّة على درجة التوتر الذي تعيشه اليوم لتظهير مواقف تحظى بالرضا السعوديّ، كلما رفعت سقوفها العدائية لمن تصفهم بحلفاء إيران، وهذه العناصر كافية لتمهيد الطريق لتسارع فرص التسويات بأكلاف أقلّ.
الاتفاق الذي سينفذ في شقه الدبلوماسي الخاص بعودة السفارات خلال شهرين، يعني أن ثمّة ما سيجري خلال هذين الشهرين، ويرجّح أن يكون المقصود هو ترجمة التعاون الأمني في تسريع الحل في اليمن. وهذا هو معنى قيادة الشخصيات الأمنية للاتفاق من الجانبين السعودي والإيراني، خصوصاً أن الشق المتصل بالسعودية وأنصار الله من الاتفاق حول اليمن قد بات شبه منجز، والمطلوب التجرؤ على المضي فيه رغم العرقلة الأميركية التي تحدّث عنها السيد عبد الملك الحوثي، وعندما تتحسّن العلاقات السعودية مع إيران، ويغلق باب الحرب في اليمن، تسحب الكثير من فتائل التأزم بين السعودية وحزب الله في لبنان، وتسقط الكثير من عناصر الافتراق مع سورية.
الاتفاق الذي يفتح صفحة إقليمية جديدة بطي صفحة النزاع بين قوتين إقليميتين كبيرتين، ويفتح صفحة دولية خطيرة باستبدال رعاية واشنطن كقوة دولية شكلت رمز مشروع الهيمنة، برعاية بكين التي تدخل مياه الخليج وأمنها وأمن الطاقة من الباب الواسع، يؤكد أن الحركة السعودية نحو هذا التموضع ليست منسقة مع الحركة الأميركية نحو التفاهم النووي مع إيران، بل يضع الحركتين في موقع التنافس والتسابق على احتواء كل من الطرفين السعودي والأميركي لما سوف ينتج عن حركة الطرف الآخر نحو إيران.
بعد التسابق الأميركي السعودي على إيران وبالتوازي معه سوف نشهد التسابق السعودي التركي الأميركي على سورية.
هل يؤمن بعض اللبنانيين الذين يتحدثون علناً عن سقف سعودي لمواجهتهم مع المقاومة، أن عليهم فعل ما تفعله السعودية بقياس مصالحها الوطنية، بما في ذلك في مخاطبة دولة عظمى هي حليف تقليديّ للسعودية، كما هو حال واشنطن بالنسبة للرياض، والرياض لم تنتظر إشارة أميركية، فهل ينتظرون الإشارة السعودية، أم يتعلمون الدرس السعودي؟