طهران والرياض وماذا بعد؟
} سعادة مصطفى أرشيد*
عندما وطأت أقدام نابليون أرض مصر عام 1798، أدرك الإنجليز سريعاً خطورة الحملة الفرنسية، واستعادوا اهتمامهم المفقود بالشرق منذ عصر الاكتشافات الجغرافية، فانطلقوا للعمل على السيطرة على الهلال السوراقي الخصيب ووادي النيل، لكن مع اكتشاف البترول وازدياد الحاجة إليه، امتدّ نشاطهم إلى الخليج وجزيرة العرب مستثمرين في زعامات قبلية وروحية، أهمّها روحياً الشريف حسين سليل الأسرة النبوية وشريف مكة وحارس الأماكن المقدسة، وعبد العزيز آل سعود البدوي القوي صاحب الذكاء الفطري.
عبد العزيز ومستشاروه من أجانب ومشرقيين مرتبطون بعلاقات سرية مع شركات البترول العملاقة، رأوا أنّ مصالحهم ومصالح السعودية مرتبطة بالدولة الأكبر في العالم مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية، فكان الملك عبد العزيز مستجيباً لكلّ مطالب الرئيس الأميركي روزفلت في لقائه الشهير معه على متن السفينة كوينسي قبالة جدّة، أعلن بهذا عبد العزيز تحالفه (ولاءه) للولايات المتحدة وملزماً من يرثه على العرش بهذا الالتزام، وتردّدت رواية تقول إنّ الإنجليز راجعوه يعاتبونه لتخليه عنهم وأنه أجابهم: (لقد تخليتم عن الشريف حسين حليفكم الأهمّ والذي منحكم ما لا يستطيع أحد غيره أن يمنحكم إياه وسمحتم لي بالفتك به فأنتم لستم أهل ثقة)، ولا أجزم بصدق القصة ولكنها رواية تروى وأهميتها في مضامينها.
التزم الورثة بالتحالف ووصية والدهم باستثناء صغير عندما أوقف فيصل بن عبد العزيز الإنتاج أثناء حرب 1973، مما أدى إلى أزمة طاقة عالمية، وما زال من غير المؤكد أنّ قراره كان بهدف رفع أسعار النفط أم دعماً لسورية ومصر في الحرب.
في السنوات الأخيرة لم يعد الولاء عند السعوديين وغيرهم من عوائل الحكم في الخليج مرتبطاً ارتباطاً بسيطاً في واشنطن، وإنما ذهب باتجاه نوع فريد من الخصخصة، فحكام قطر يرتبطون بالولاء مع الإدارات الديمقراطية، فيما جيرانهم في الإمارات يرتبطون بالإدارات الجمهورية، دعمت الإدارة الديمقراطية في عهد أوباما ـ بايدن ولي العهد السابق محمد بن نايف على حساب إبن الملك ولي العهد الحالي محمد بن سلمان الذي فتك بخصومه في العائلة وخارجها، اعتقلهم في حادثة «الرتز كارلتون» الشهيرة ومعهم رجال أعمال ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وأجبره على تقديم استقالته بشكل مهين، فيما رجاله يقطّعون المعارض خاشقجي في تركيا ويرسلون أشلاءه في صناديق تحمل صفة الحقائب الدبلوماسية.
ولكن دوائر الدنيا تدور، وعاد بايدن للحكم وفي برنامجه المعلن معاقبة ولي العهد وجلبه للمحاكم، لكن الأمير كان قد أصبح ممسكاً بزمام الأمور، ولم يعُد صيداً سهل المنال. جاءت الحرب الروسية الأوكرانية في صالح الأمير، فارتفعت أسعار البترول والغاز، مما دعا واشنطن للطلب بالطريقة التقليدية المتعالية من السعودية زيادة الإنتاج لتخفيض السعر، وهو ما رفضه ولي العهد، وأجرى في حينه مقابلة مطوّلة مع صحيفة «أطلانطس» قال فيها إنّ مصالح بلده تتفوّق لديه على مصالح الولايات المتحدة، وإنّ بلاده لم تعد ترى في مصلحتها الارتباط على الطريقة السائدة مع الإدارة الأميركية وإنها تنظر إلى تنويع علاقاتها مع الشرق أيّ روسيا والصين. في ذلك الوقت أصبحت الطرق مفتوحة والاتصالات يومية بين الرياض وكلّ من بكين وموسكو، في حين تتأزم بين العواصم الثلاث وواشنطن.
الصين ذات الدبلوماسية الحريرية في ملمسها، الهادئة والصامتة في صوتها، عملت بدأب وصمت على نزع فتائل الخلاف السعودي الإيراني في خطوة تحقق بها مصالحها والمصالح المشتركة لكلّ من طهران والرياض، وحرّكت قطعة شطرنج مهمة في حربها الصامتة مع واشنطن وبما يفيد موسكو، وتمّ الإعلان عن توقيع الاتفاقية الإيرانية السعودية التي ما زلنا لا نعرف كثيراً من تفاصيلها، ولكننا نعرف أنّ هذه الخطوة أفقدت واشنطن صوابها وأفسدت على نتنياهو استراتيجيته القائمة على قدمين الأولى بنفخ نار الحرب مع إيران واضعاً الخليج في مجال الضربات الإيرانية، والثانية بتصوّره إمكانية إهمال الملف الفلسطيني لصالح عقد اتفاقيات سلام وتطبيع مع العرب ووضع الفلسطينين في النهاية ليقبلوا دون نقاش ما يعرضه عليهم.
محمد بن سلمان أصبح لديه حلفاء أقوياء دولياً وأزال تناقضه مع إيران وأصبح لديه جمهور من المؤيدين الشباب الذين ملّوا من سياسات التشدّد الوهّابي وجمعيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتح أبواب السعودية أمام الحياة غير المنضبطة بالضوابط السابقة، ولم يعُد السعودي مضطراً للذهاب إلى البحرين أو دبي لممارسة نزواته و(شمّ الهوا)، كأنه يريد أن يقول إنّ السعودية جديدة تماماً بسياساتها الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
الاتفاق مع طهران ينعكس حكماً على ملفات أخرى، منها ما ظهر للعلن من رفض السعودية السماح بدخول وفد (إسرائيلي) للمشاركة في فعالية رياضية دولية، ومنها ما قد يظهر في القريب إنْ رأينا محمد بن سلمان في دمشق أو الرئيس السوري في الرياض.
أسئلة لا تزال برسم الإجابة: هل سيبقى محمد بن سلمان على سياساته الجديدة خاصة إنّ عاد الجمهوريون للبيت الأبيض؟ وهل سيبقى محمد بن سلمان في الحكم أم أنّ قوى سعودية متحالفة مع واشنطن قد تطيح به؟
وفي جانب لا يخلو من الطرافة في علاقات جدية عابسة، كيف لم يستطع المسلمون بعلمائهم وسياسييهم وبسنّتهم وشيعتهم إحداث اختراق إيجابي في العلاقة السعودية ـ الإيرانية، ولكن من استطاع ذلك كان الصيني الشيوعي ـ الكونفوشسي؟
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.