مقالات وآراء

أنيس والغياب الموحش*

‭}‬ ناصر قنديل
تحية لمبادرة الأخوة والرفاق في ندوة العمل الوطني وعلى رأسهم الصديق رفعت بدوي لإحياء ذكرى رحيل المثال والقدوة للمناضل الكامل وقيادي الظلّ ومقاوم المهمات الصعبة والمفكر الميداني، والإعلامي المميّز، أحد صنّاع حرب العقول وكيّ الوعي المعاكس، وهو الصديق الموحش في غيابه بقدر إنسه في الحضور، أنيس النقاش.
تقع هذه المبادرة على أسنّة الحراب في لحظة احتدام فلسطين، وعلى بساط العقل البارد في زمن تسابق القضايا الإشكالية الكبرى وتسارعها، وعلى شغاف القلب الحارة في تذكر الرحيل والفقدان، بمثل ما تقع بالنسبة للندوة على تقاطعات موازية في أهمية ما تمثل، لنموذج ابن العاصمة العربية المقاومة بصفته المثال البيروتي الذي يجب ألا يضيع، ولجسر العبور بين المذاهب والطوائف لمدينة لا تشبه ذاتها إلا كلما ذابت فيها المذاهب والطوائف، وللرؤيوية أسلوباً في الحياة أدمنته بيروت المثقفة الراقية وأدمنه أنيس المقاتل، حتى يكاد القول يكون مطابقاً للوصف إنْ قلنا إنّ أنيس نقاش هو النسخة الفدائية للرئيس سليم الحص، يتماثلان في الآدمية والثقافة وتسكنهما روح الدولة والأمة والقضية.
أنيس المناضل الكامل، هو أنيس الذي لم ينتظر أمام غياب وقصور الدولة والأحزاب اللبنانية عن فعل اللازم نحو فلسطين، ما يسمّيه المنظرون بنضج الظروف الموضوعية، وامتشق عقله وجسده الشاب وبندقيته ليقود عملية فيينا ويقول بالنيابة عن كلّ اللبنانيين، نحن هنا قضيتنا فلسطين، ومثل ذلك فعل يوم انتصرت الثورة الإسلامية في إيران وجعلت فلسطين وجهتها وبوصلتها، فأعاد الكرة في باريس، ليقول لإيران، موقعاً بالنيابة عن كلّ العرب، على نصّ قالته العملية، نقدّر عظيم الموقف ونتقاسم التضحيات، ليمضي عشر سنوات من السجن ضريبة هذا التوقيع، فهو يحلّل ويقيّم ويستخرج تقدير الموقف ويضع المهمات ويُعدّ لها العدّة ويقودها ويشترك في تنفيذها ويكون أوّل من يدفع الثمن.
أنيس قياديّ الظلّ، هو أنيس الذي خرج من السجن بزاد فكريّ هائل، ورؤى ثقافية وفكرية واستراتيجية، وقرّر أن يكون جسراً استراتيجياً دائماً بين إيران وفلسطين، وكانت المقاومة الإسلامية في لبنان وقادتها وكوادرها عائلته الأقرب لهذه المهمة، فبقي أنيس حتى حرب تموز 2006 ينسج خيوطه بهدوء، بين إيران، والمقاومة في لبنان والمقاومة الناهضة في فلسطين، بعيداً عن الأضواء وعن الإعلام، حيث عشرات المجموعات التي ولدت من رحم انتفاضة الأقصى لتحمل السلاح، كانت تحظى برعاية الأنيس، وفي كلّ ما مرّ على إيران والمقاومة في لبنان من محطات وتحديات وأزمات، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً واستراتيجياً، كان أنيس يتصرّف كقائد ظلّ يحلّل ويفكّر ويقترح، ولا يدّعي أبوة فكرة ولا أمومة قرار، يضع وديعته في عهدة من يلزم ويمضي، وصولاً الى الحرب على سورية، التي أحبّها وانتسب الى حربها والتصق بها حتى اختارها لتكون آخر ما أغمض عليه عيناه.
أنيس المفكر الميدانيّ ومقاوم المهمات الصعبة، هو أنيس الذي لم يتقاعد، وبقي رغم المتاعب الصحية التي تسبّبت بها سنوات السجن، لا ينسجم مع فكرة الجلوس وراء المكتب إلا عندما يكتب، فكان يعتقد أنّ لقاء المقاتلين والحوار معهم مصدر زاد فكريّ دائم، وأنّ التعرّف على موازين القوى والتحديات يبدأ من عندهم، من الميدان، فلم ينفصل عنه يوماً، يفرح بهم ويفرحون به، في لبنان وسورية وإيران، يصغي إليهم، ويحاول ابتكار حلول تكتيكية واستراتيجية للمشاكل التي يضع يده عليها، وكثيراً ما يرافق تطبيقها، كما في الكثير من تجارب الدولة في إيران، والمقاومة في لبنان ومحطات الحرب على سورية، وبعض هذه المشاكل مهمات صعبة انتدب أنيس نفسه لحلها، بعضها تقني معقد وبعضها اقتصادي وبعضها استراتيجي.
ترك لنا أنيس زاداً فكرياً هاماً، إضافة للنموذج الراقي أخلاقياً وثقافياً ونضالياً الذي جسّده كمثال وقدوة، وقد شكلت فدرالية الشرق، والتشبيك الاقتصادي والأمني بين دول وكيانات الشرق، كوصفة استراتيجية سحرية للمشاكل، حمله الثقيل، وإنجازه الأهمّ، خصوصاً أنّ طرحه جاء في ظروف انخراط المنطقة في نزاعات وحروب تقطع الطريق على مشاريعه الطامحة والحالمة، وكم كان سيفرح عندما يسمع عن اتجاه العلاقات التركية السورية الى تجاوز صفحات الحرب برعاية روسية إيرانية، وبالاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، ولو كان حاضراً لقلنا إنّ بصمات أنيس موجودة في هذين الإنجازين والتفاصيل التي تسير بها الأمور، لعله كتب وصفته الكاملة قبل أن يمضي.
أنيس الإعلامي المميّز ورجل حرب العقول وكي الوعي المعاكس، هو أنيس الذي تفتقده المنابر والبرامج الحوارية، المتمكّن من قواعد وأصول السجال وفق المنهجية الأرسطية، يتعامل مع الكلمة بعقل الفيلسوف وروح المناضل، مدرك بعمق لوظيفة حرب العقول، سواء في خطط الإنهاك المصمّمة من الغرب وما تخفيه من برامج الحرب الناعمة واللعب على الهويات والعصبيات وتغيير النمط الثقافي، أو في موقع هذا النوع من الحروب في أولوية مشروع المقاومة، بما هو أبعد من بثّ روح الصبر والتحمّل في بيئة المقاومة، إلى الاشتغال على كيّ معاكس للوعي في جبهة العدو الداخلية يعيد طرح السؤال الوجودي عن إمكانية زوال الكيان، نذكره اليوم وقد دخل الكيان مأزق الوجود، وصار لقلق الزوال منظّرون وكتاب وفلاسفة.
أنيس صديق الغياب الموحش، وقد ترافقنا وتزاملنا منذ عام 2006، وفي بدايات الحرب، وعندما اتصلت به أدعوه لشراكة في تشكيل غرفة عمليات إعلامية تواكب الحرب في يومها الأول، كان ملك النقاش أنيس النقاش يجيب بكلمة، متى وأين، ليكون أوّل الواصلين، ويبقى على مدى أيام الحرب ركناً مؤسّساً لا يكلّ ولا يملّ في صناعة الخطاب وتقدير الموقف وإبداع الأفكار، وفي حرب سورية كنا على اتصال دائم، وقد اتخذناها مقر إقامة مستدام أغلب أيام الحرب.
غيابك موحش أيها الأنيس، فارس لا يكبو، بل فارس بدون موعد يترجّل.
ومثلنا يفتقد كلّ منا بعضه المغادر، فكرك باقٍ وأنت تسافر، ونحن حراسه فهل تقبل؟
وما عاد في العمر ما يكفي لصناعة صداقات جديدة، وحزمة الأصدقاء تحزم حقائبها وترحل.
تبقى الأنيس وتبقى المثال وتبقى نموذج المفكر ببدلة القتال، حضورك جميل في الغياب بحضور الأصدقاء والأصحاب، لكن حضورك في الحضور يبقى هو الأجمل.
ــــــــــــــــــــــــ
*كلمة ألقيت في ندوة نظمتها “ندوة العمل الوطني” في ذكرى المناضل الراحل أنيس النقاش

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى