بكين ترث واشنطن ما بعد الحرب العالمية
ناصر قنديل
الصين العظيمة والعظمى، تذكرنا بالأوصاف التي ابتكرها الأميركيون وأطلقوها على أميركا، مرة للقول إن أميركا العظيمة هي الطريق لاستعادة أميركا العظمى، أي أن أميركا المثال والمتفوقة هي التي تصنع لأميركا زعامتها على العالم. ومرة للقول إنه ما عاد ممكناً استعادة عظمة أميركا أي تفوقها الاقتصادي والعلمي، دون الدفاع عن مكانتها في زعامة العالم، في تبرير الحروب بمعادلة أن خريطة طريق استعادة أميركا العظيمة تمر بإعادة تأكيد أميركا العظمى، مع فارق أن النص وعكسه أميركياً لم يرسم الطريق لعودة أميركا العظيمة ولا أميركا العظمى، بينما نحن نشهد الصين العظيمة والعظمى، أي الصين التي تتوسّع شمالاً وجنوباً وغرباً، من موقعها في أقصى الشرق، وهي تتوسّع بهدوء وثبات، وبالتوازي تتجذر مكانة الصين المتقدمة اقتصادياً وعلمياً أفقياً وعمودياً كتعبير عن الصين العظيمة، الوصف أميركيّ والموصوف بات صينياً.
واقعياً أمامنا الآن بلغة الأرقام، الصين هي المورد الأول للمستوردات الأميركية بأكثر من 500 مليار دولار أميركي، والصين شريك تجاري أول للاتحاد الأوروبي بـ 700 مليار دولار سنوياً بعد سنوات من تربع أميركا على هذا العرش، والصين شريك تجاري أول للبلاد العربية واليابان وأميركا اللاتينية وروسيا. وهذا هو الحال الذي كانت عليه أميركا بعد الحرب العالمية الثانية. والصين زبون أول لمشتريات الطاقة والسلاح من روسيا، وزبون أول لمشتريات الطاقة من الخليج وإيران وهي مورد أول للسلع الاستهلاكية إلى كل العالم، مستندة إلى بنية صناعية عملاقة، تلجأ إليها الشركات الأميركية نفسها لإنتاج البضائع، بما فيها تلك العالية التقنية، ولديها سلاسل توريد متينة، ومفهوم للشراكة الاقتصادية قائم على التنمية المستدامة والأرباح المتبادلة، بما في ذلك في شروط التمويل، بعكس الإقراض الإفلاسي الذي أنتجته أميركا مع دول العالم لوضع اليد على أصولها وثرواتها الخام، وتمتلك مع شركائها الذين يزداد عددهم وتتسع جغرافيتهم، شبكة نقل برّي وبحريّ وبنى تحتية حديثة وفاعلة تغطي ثلثي مساحة العالم، من بطرسبورغ قابلة ألمانيا، إلى الخليج وأفريقيا مروراً بإيران وباكستان.
واقعياً ها هي الصين بعد استعصاء عميق في المنطقة الأشدّ حساسية في العالم الذي يمثله الشرق الأوسط، محوره الصراع بين السعودية وإيران، الذي تزاوج مع الحروب الأميركية لإخضاع الدول المستقلة وحركات المقاومة، والسعي لتحويله إلى حرب بين الشيعة والسنة، وبوابة للتطبيع العربي الإسرائيلي، وتحوّل هذا الاستعصاء الى مصدر خطر على سلاسل توريد الطاقة، تدخل الى الملف الشديد السخونة بكل برودة، وتقدّم التوقيع الثالث الى جانب التوقيعين السعودي والإيراني، تماماً كما قدّمت واشنطن التوقيع الثالث لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل” عام 1979، العام الذي انتصرت فيه الثورة الإسلامية في إيران. وأعلنت ان زمن تثبيت “إسرائيل” في المنطقة لم يبدأ بخلاف ما أرادت اتفاقيات كامب ديفيد قوله، والصين تقول للغرب، بيننا وبينكم مصلحة مشتركة هي تدفق آمن للطاقة، والفارق أنكم لا تستطيعون لعب دور الراعي بين طرفي الصراع المحتدم في المنطقة، وهما لم يعودا العرب و”إسرائيل”، بل صارا إيران والسعودية، ولكن نحن نستطيع، وتخريب المسعى الصيني هو إعلان انهيار شبكة أمان التدفق الآمن للطاقة، أنتم أول الخاسرين فلا تلعبوا بالنار.
واقعياً، ها هي الصين في روسيا وهي تحمل الى جانب تحالفها الاستراتيجي مع روسيا اقتصادياً وعسكرياً كشريك أول في صياغة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، تضع مبادرتها لإنهاء الحرب في أوكرانيا على الطاولة، وهي مبادرة يستطيع الغرب رفضها عملياً لا كلامياً في حالة واحدة، إذا ضمن الانتصار في الحرب، وهو ما يعترف كل قادة الغرب باستحالته؛ بينما انتصار روسيا أو بقاء التوازن في قدرة الاستنزاف مع بقاء الأمر الواقع الجغرافي الروسي في العمق الأوكراني، فيعني أن التفاوض ممر إلزامي، ودون شروط مسبقة وفقاً لما تقول المبادرة الصينية، ولا تحتاج الصين إلا صمّ آذانها عما يقولون وانتظار ما سيفعلون، وبعد حين قريب أو بعيد سوف يأتون إلى الطاولة التي تديرها الصين للتفاوض، طالما أن روسيا وجدت فيها الميدان المناسب لتظهير ناعم لانتصارها الحتميّ.
واقعياً الصين العظيمة تتقدّم والصين العظمى تتقدّم بالتوازي، وكل منهما طريق للأخرى، ويبقى الكلام أميركياً، والفعل صينياً.