سورية عقب أخيل السياسات الأميركية والإسرائيلية
ناصر قنديل
– مَن يراقب الوضع السوري وامتداده وتداعياته خلال فترة الشهرين الفاصلة بين تاريخ صدور التقرير الاستراتيجي لمعهد الأمن القومي في تل أبيب، الذي يعامل بصفته أبرز وأهم قراءة إسرائيلية لتحديد التهديدات ورسم الاستراتيجيات، وبين اللحظة التي صدر فيها البيان الأميركي عن سقوط قتيل وجرحى أميركيين في عملية نفذتها طائرة مسيّرة على منطقة حقل العمر حيث القواعد الأميركية في شرق الفرات، يطرح السؤال الاستراتيجي المشروع عما إذا كانت تل أبيب لا تزال تملك الحيوية الفكرية اللازمة لإدراك التحديات، والذكاء الاستراتيجي اللازم للتعامل معها. والعملية تقع ضمن التوقعات التي تحدث عنها التقرير، في إطار الرد على الغارات الإسرائيلية، أو ما يسمّيه الإسرائيليون بالمعركة بين حروب، لكن التقرير يغفل الإجابة عن سؤال كيفية ضمان التحمل الأميركي لتصاعد هذه العمليات، خصوصاً عندما يبدأ نزف الدم الأميركي، وقد بدأ، أو يبدأ الاعتراف بحدوثه تمهيداً لبحث مستقبل الاحتلال ووظيفته وكلفته، وقد بدأ، ما دام التقرير يقترح استمرار وتصاعد عمليات الإغارة الاسرائيلية في العمق السوري ضمن إطار ما يسميه بالمعركة بين حروب؟
– في كل العناوين الفرعية للتقرير، تحدّي حزب الله والوضع الفلسطيني نحو انتفاضة شاملة، وتهديد الوضع الاسرائيلي نحو انقسام خطير، ومخاطر فقدان الدعم الغربي مع حكومة متطرفين، والتحدي السوري، وتحدي إيران النووية. يخلص التقرير الى توصيات يشكل الاستناد الى واشنطن ودعمها والتنسيق معها المعطى الوحيد القابل للبحث جدياً، إذا ما قورن برهانات يتحدث عنها التقرير دون أن يملك واضعوه أو الذين يرفع إليهم ليتخذوا القرارات على أساسه، الأدوات التي تمكنهم من تحويل التمنيات إلى سياسات، كمثل الرهان على تعزيز السلطة الفلسطينية وخيارات التسوية من جهة، والحديث عن انهيار الأساس الواقعي لفكرة الدولتين، ومخاطر الدولة الواحدة مع الفلسطينيين كإطار سياسيّ للحل، من جهة موازية، أو الحديث عن الرهان على مسار التطبيع دون القدرة على استشراف أن هذا المسار يحتضر، أو الحديث عن مخاطر جدية لبلوغ إيران العتبة النووية دون الإجابة عن سؤال حول كيفية الحؤول دون ذلك أو كيفية التعامل معه بغير الكلام الإنشائي المنمق عن الرفض وعدم استبعاد العمل العسكري، وكل شيء يبدو مرتبطاً بالإجابة عن سؤال يتفادى التقرير الإجابة عنه، وهو حدود القدرة والرغبة الأميركيتين بمجاراة المخاطر التي تترتب على السياسات الإسرائيلية، ومنها ما يجري في سورية، كما يصف التقرير العمليات على القوات الأميركية باعتبارها الرد على الغارات الإسرائيلية.
– في سورية، حيث يعترف التقرير بالدور المحوري لدولتها في محور المقاومة، مقتل السياسات الأميركية والإسرائيلية، فما يسميه التقرير بالصمت السوري الغامض على الغارات تفسّره العمليات على القوات الأميركية، وسط مواصلة بناء مقدرات الجيش كما يعترف التقرير، وهذا يعني نشوء وضع غير قابل للاحتمال للأميركيين ينتهي بأحد أمرين، الانسحاب تفادياَ لتحمل مستحيل للرد على الغارات الإسرائيلية، أو وقف الغارات الإسرائيلية منعاً لتواصل العمليات على القوات الأميركية، وهذا ما كان يجدر بالتقرير مناقشته، ماذا إذا وضعت الأمور بين الانسحاب الأميركي ووقف الغارات، ماذا ستختار قيادة الكيان وكيف ستعوّض النقص الناجم عن ركني استراتيجيتها التي يثق واضعو التقرير أن كلاً منهما باقٍ وسوف يستمر، بمثل ما تنص فقرة من التقرير على جملة مليئة بالمعاني التي تكشف المدى المروع لانعدام القدرة على التوقع، ومثلها انعدام القدرة على رسم السياسات. ففي شهرين تسارعت العلاقات التركية السورية، وتزاحمت المبادرات العربية نحو سورية، والتقرير يتحدث بتعجرف وغطرسة عن “تسخير تركيا ودول الخليج لخنق إيران وتقليص نفوذها في سورية” بعد أن فاته توقع أن تركيا سوف تدعو إيران للمشاركة في الثلاثية الروسية التركية السورية لتصير رباعية، على مسافة أيام قليلة من صدور التقرير، وأن السعودية بعد أسابيع قليلة من صدور التقرير، سوف توقع برعاية صينية، وفي ظل استياء أميركي، اتفاقاً مع إيران وصفته ببداية مرحلة جديدة في المنطقة، وأن كلاً من تركيا والسعودية تتجهان نحو مرحلة جديدة من العلاقات مع سورية، ستحمل الكثير من المفاجآت، كتلك التي غابت عن “أصحاب التقرير الاستراتيجي”.
– التصعيد في شرق سورية، سوف ينتج ديناميكية جديدة، بعد الإعلان الأميركي عن الخسائر البشرية، ما يضع مستقبل الاحتلال الأميركي على الطاولة السياسية داخل واشنطن بقياس الكلفة بالعائدات، أي ما يعيد خيار الانسحاب الى الواجهة مجدداً. وهذا الانسحاب يفتح سياقاً آخر لا مكان للكيان كلاعب محوري على جهة سورية بعده، لأن الرد سيكون على الغارات عندها في عمق الكيان. وهذه هي الأسئلة التي كان الأجدر بواضعي التقرير طرحها ومحاولة تقديم أجوبة على كيفية التعامل معها كفرضيات. وها هي سورية تبني قدراتها العسكرية للمرحلة المقبلة كما يعترف التقرير، وتبني جسوراً سياسية تخالف كل التقديرات الإسرائيلية، ومنها سوف يكون على قادة الكيان مواجهة الاختيار الصعب.
– في كل أبواب التحديات التي عرضها التقرير عجز فكري بائن، وهروب من الاسئلة الاستراتيجية والأجوبة التي تضيء على خيارات واقعية، ربما تكون متاحة مناقشتها في مناسبات تتصل بالأحداث، من لبنان الى فلسطين الى ايران، وصولاً الى الانقسام الداخلي للكيان ومستقبل العلاقة بروسيا وأميركا.