إنها الفدرالية بآخر ما لديها… والأكثر هو التقسيم
ناصر قنديل
تمّ التلاعب بعقول اللبنانيين بكذبة التوقيت العالمي لأن رئيس الحكومة الذي تسرّع بارتجال البقاء على التوقيت الشتوي لم يستكمل الإجراءات التقنية التي تتيح اعتماد التوقيت الذي تقرّره الحكومات في احتساب التوقيت على ساعات الهواتف والحواسيب ومواعيد إقلاع وهبوط الطائرات، والمهلة المعتمدة لمثل هذه التعديلات هي الإبلاغ عنها قبل ستين يوماً، لو تمّت مراعاتها لكانت بقيت ساعات الهواتف والحواسيب ومواعيد الطيران وفقاً للتوقيت الشتوي حتى نهاية رمضان، وسقطت كل نظرية التقدميين والرجعيين، والعالميين والانعزاليين. وها هي سورية الدولة المعاقبة من العالم الغربي كله الذي يملك الساعة العالمية كما يعرف المتحدّثون عنها، يعتمد على الهواتف والحواسيب ومواعيد الطيران فيها ومعها التوقيت الصيفي على مدار العام لأنها قرّرت وأبلغت في مهل مناسبة أنها لن تعمد الى السير بالتوقيت الشتوي. وها هي مصر التي كانت قد علقت العمل بالتوقيت الصيفي قرّرت العودة إليه وتسير الأمور فيها بشكل طبيعيّ، لأنها اعتمدت المهل المعتمدة في الإبلاغ.
كان أمام رئيس الحكومة أحد خيارين، أن يكمل بالتحدّي ويسير بالإجراءات المتممة، وهو ما بدا صعباً على كل حال، أو أن يتراجع عن القرار إذا أراد قطع الطريق على مناخ مريض شارك في قراره بإنتاجه، لكن غيره هو الذي صنعه ونفخ به إلى أعلى مراتب الانشقاق، وهو يحاضر بالتقدم، فتفوّق على الآخرين بتجرُّئه على التراجع، ليس من باب التراجع عن الخطأ فضيلة، بل على قاعدة دفع الضرر الأعلى بالضرر الأدنى.
كي لا نتسرّع بإطلاق الأحكام كما فعل الذين أطلقوا أحكامهم على شريكهم في الوطن بالتخلف وهم ينفون البعد الطائفي عن موقفهم، من حقنا أن نسأل، ومن حق كل لبناني أن يسأل، هل هذا النوع من القرارات غريب على لبنان واللبنانيين مع دخول شهر رمضان في فترة الانتقال بين التوقيتين الشتوي والصيفي، والجواب بالنفي حكماً، ويكفي التذكير أنه في زمن كان في لبنان حكومتان بألوان طائفية قبل اتفاق الطائف، اعتمدت الحكومتان توقيتاً واحداً فأجّلت العمل بالتوقيت الصيفي لما بعد نهاية شهر رمضان. والفارق كما قلنا إنه في زمن التغييرات التكنولوجية كان للقرار تتمات ضرورية يجب استباق القرار بها قبل مهلة مناسبة، وما حدث في حكومتي الرئيسين ميشال عون وسليم الحص يقول شيئاً واحداً، هو أن الخجل من الوطنية كان لا يزال بخير رغم الانقسام الطائفيّ الواضح.
السؤال هنا قبل تراجع الرئيس ميقاتي، يوجّه للفريقين، وبعد قراره يوجه لفريق واحد، والسؤال هو هل يمكن لأي فريق يتمسك بمفهومه للطابع المصيري لموضوع التوقيت، ويُصرّ على ابتعاده عن الخلفية الطائفية، ويطلق على الطرف المقابل من التوقيت أوصافاً مقيتة، أن يجيب على سؤال بسيط، وهو لماذا لم يلق منطقه قبولاً إلا في بيئة طائفية واحدة، ولماذا لم يجد نصيراً وازناً لهذا المنطق في الضفة الطائفية المقابلة، وهذه حقيقة لا جدل فيها؟ فالمشهد واضح، فهل التقدمية والرجعية تقعان على خطوط الطوائف، ولو بقي الرئيس ميقاتي على قراره كنا سنسأله، هل الوطنية هي نيات أم أفعال، وما دام الشريك في الوطن وقف كله رافضاً للقرار، فما هو الشيء العظيم الذي يستحق العناد عنده، لكن تراجع الرئيس ميقاتي يضع الأسئلة الوطنية كلها على عاتق الضفة المقابلة؟
الحقيقة التي لا يمكن حجبها أو إنكارها، أن لبنان انقسم طائفياً بصورة لم يعرفها من قبل، بل إن دخول الكنائس على خط اعتماد توقيت مخالف للقرار الحكوميّ إعلان سياسي خطير، أكبر من نص الخطاب السياسيّ للأحزاب، فلبنان رغم الكلام الكثير الذي يطلقه دعاة الفدرالية، يعيش في نظام فدرالي، على النمط البلجيكي، أي الفدرالية الديمغرافية، لأن الفدرالية الجغرافية غير ممكنة التطبيق في واقع لبنان المتداخل والمتشابك. وفي لبنان فدرالية الطوائف قائمة، بنظام أحوال شخصية للطوائف وقانون الانتخاب الطائفي وقاعدة المناصفة الطائفية المعتمدة دستورياً في الحكومات ووظائف الفئة الأولى، ونصاب الثلثين الضامن لمشاركة الجماعات الطائفية لانتخاب رئيس الجمهورية، وللطوائف مدارسها وجامعاتها ومستشفياتها ووسائل إعلامها وكشافتها وأملاكها الوقفية وامتيازاتها واستثناءاتها الضرائبية. وما جرى في التوقيت هو آخر معالم المنطقة الفاصلة بين الفدرالية والتقسيم، حيث التوقيت مركزيّ في الدول الفدرالية مثله مثل السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية والعملة الوطنية، والخطورة أن رمزية فك الارتباط في التوقيت هي آخر ما تحتمله الفدرالية بصعوبة قبل الحديث عن تقسيم يعرف الجميع أنه مستحيل، بمثل ما يعرفون أن الخلافات اللبنانية المشكو منها تطال المشتركات التي تبقى موحّدة في الفدرالية، وهي المالية والدفاع والخارجية، والتي لا يمكن جعلها ملكاً للجماعات المختلفة ترسم كل منها سياستها الخارجية والدفاعية وتصدر عملتها وتقرّر توقيتها الرسمي، إلا بإعلان دول مستقلة؟