واشنطن بعد شلل باريس وتل أبيب وتموضع أنقرة والرياض
ناصر قنديل
– تشكّل متابعة ومراقبة مصادر القوة والضعف في السياسات الأميركية عنصر الثقل في استقراء المشهد الدولي، واستطراداً المشهد الإقليمي للمنطقة المرتبط عضوياً بما يجري من تغييرات متسارعة في موازين القوى على الساحة الدولية، حيث لا يبدو أن هناك فرصة للتشكيك بجدية وصدقية التحديات التي يمثلها الصعود الصيني الروسي المتسارع والمرتكز على عناصر لا تبدو قابلة للتغيير بعد استنفاد وسائل الضغط التقليدية، سواء عبر العقوبات المصرفية، التي تحوّلت الى مصدر استنزاف في مجال الطاقة لقدرة الدول الغربية على الصمود، وتهدّد بانفجار أوروبا، بينما أنتجت أساساً للتكامل الصيني الروسي اقتصادياً، وبالتوازي تحولت حرب الاستنزاف المفتوحة عبر أوكرانيا وسباق التسلح المفتوح في شرق آسيا، إلى مصادر استنزاف عكسيّة حيث تنفد المخزونات التسليحية في الغرب، وتحتفظ روسيا والصين بزمام المبادرة كل في مداه الحيويّ.
– الأزمة المصرفية التي أطلت برأسها من مصرف سيليكون فالي وتحوّلت الى عدوى بدأت تعصف بمصارف كبرى أميركية وأوروبية، ليست مجرد أمر تقني عابر، ولا مكاناً للعلاجات التقنية في القدرة على أكثر من تأجيل الانفجار الآتي من خلال النتائج المترتبة على رفع أسعار الفوائد في كل دول الغرب، بالتوازي مع ارتفاع المديونية الحكومية وتجاوزها معدلات قياسية في ظل تراجع الواردات الحكومية بسبب الركود الاقتصادي، وما ينتج حكماً عن هذين العاملين من خلق بيئة مالية لها نتيجة وحيدة هي موت الاستثمار، بسبب العجز عن الحصول على التمويل ومتاعب سداد القروض، وتراجع الإنتاج، والذهاب الى تسييل الأسهم والأصول وسحب الودائع، وهذه مسارات مستمرّة ومتمادية وتفعل فعلها وتنتج المزيد من الاختناقات التي تبدأ بخروج الشركات الأضعف والمصارف الأضعف من الأسواق، ويليها مَن يقف وراءها في السلسلة وصولاً للحظة الحرجة التي تنتج معادلة الدومينو.
– التراجع في حضور الدولار في الأسواق العالمية يشكل تحدياً موازياً للأزمة المصرفية، حيث تسببت العقوبات مع الاتساع والعمق الذي احتلته في الساحة المالية العالمية، سبباً لتراجع الثقة بالنظام المالي والإدارة الأميركية له وهي إدارة مستندة الى مكانة الدولار المهيمنة، والنتيجة الطبيعيّة للعقوبات من جهة، وتراجع الثقة بنظام الدولار المهيمن من جهة موازية، انسحاب أسواق وودائع من الدولرة، وهنا يبدو واضحاً أن الصين تتجه الى تعزيز مكانة عملتها اليوان كعملة موازية ورديفة للدولار في مبادلاتها التجارية. وهذا هو ما تقوله الاتفاقات الروسية الصينية، وما تبشر به الاتفاقيات الصينية السعودية، وبالتوازي الاستعدادات التي تجري على ساحة مجموعة بريكس وخصوصاً في أميركا اللاتينية بقيادة البرازيل الذي يزور رئيسها الصين، لإطلاق عملة رديفة تعتمدها دول بريكس في مبادلاتها التجارية والمالية وحفظ ثرواتها. وهذه البيئة المالية الجديدة الوافدة تزيد عناصر الضعف الأميركي بمثل ما تعزز وضعية المنافسين الصاعدين الى الساحة الدولية.
– في قلب هذه العناصر المأزومة المتنامية تشهد واشنطن أزمات عاصفة في أربع ساحات حساسة في صناعة مصادر قوتها، تل أبيب تحت تأثير موجات انقسام حاد يهدّد وفق رئيس الكيان بحرب أهلية، وسط تراجع مشروع التطبيع، وتصاعد المقاومة الفلسطينية، ونمو حضور ومعادلات محور المقاومة، دون وجود أفق لتجاوز هذا المأزق الخانق، وفي باريس التي تشكل قلب الرهان الأميركي في أوروبا التقليدية أزمة تخرج عن السيطرة، وسط شارع ملتهب وحكم عاجز عن إنتاج الحلول الوسط، وسط اقتصاد نازف ودولة عاجزة عن تمويل نفقاتها مثقلة بالديون حتى أذنيها، وبالتوازي تموضع إقليمي لأكبر حليفين لواشنطن خارج السياق التقليدي، بعيداً عن الرؤى والسياسات الأميركية، تركيا تصغي لموسكو وطهران أكثر مما تصغي لواشنطن، خصوصاً في الملف الأهم في الإقليم المتصل بسورية، والسعودية اللاعب الأهم في سوق الطاقة والمصدر المتبقي لتأمين موارد الطاقة اللازمة لأوروبا مع توقف سلاسل التوريد الروسية، تذهب سريعاً لتقديم تفاهماتها مع موسكو وبكين على مطالب واشنطن، وتختار بكين راعياً لاتفاق مفاجئ لـ واشنطن مع طهران وانفتاح على دمشق بعكس النصائح والطلبات الأميركية.
– من لا ينتبه الى أن القبضة الأميركية تفقد الكثير من عناصر القوة للقبض على المنطقة، وحصرية رسم السياسات فيها، ولا يلاحظ أن التراجع الأميركي استراتيجيّ وليس تكتيكياً، وأن معادلة المنطقة ومنها لبنان، تصبح سعودية إيرانية سورية تركية روسية صينية، آسيوية في جوهرها، أكثر مما هي أطلسية متوسطية، لديه مشكلة في النظر أو في الفهم، أو في كليهما.