دروس وعبر

‭}‬ سعادة مصطفى أرشيد*
في البرنامج الانتخابي الذي تقدّم به نتنياهو للناخبين وفاز على أساسه، ورد أنه سيعمل على إجراء تعديلات في النظام القضائي كان من الواضح أنها ستصادر كثيراً من صلاحياته لصالح السلطة (الحكومة)، هذا ما كان أولوية من أولوياته فور تشكيله حكومته السادسة الأكثر تطرفاً ويمينية في تاريخ حكوماتهم. يريد نتنياهو أن يحقق أمرين شخصيّين من خطوته هذه…
الأول أن يصبح ممسكاً بزمام السلطات كاملة فهو يملك اليوم السلطة التشريعية بأغلبية مريحة وفق معايير الديمقراطيات الغربية، وهو مالك للسلطة التفنيذية بترؤسه للحكومة، ويريد السيطرة على القضاء ليصبح وكأنه الملك شاؤول أو الملك داوود في التاريخ العبري،
الهدف الثاني هو أكثر وخصوصية، حيث أنه متهم بمجموعة قضايا فساد بعضها خطير ويمسّ أمن الدولة القومي كقضية الغواصات الألمانية، وهي قضايا منظورة أمام المحاكم التي لا تزال مستقلة في قراراتها، يشعر نتنياهو بخطورة وجدية الشهادات والأدلة المقدّمة ضدّه، والتي إنْ وصلت إلى إدانته فذلك يعني الإطاحة به سياسياٍ وإدخاله السجن.
لنتياهو هدفان آخران يتمثل الأول في رغبته وشركائه في الحكومة بضمّ كامل الضفة الغربية او على الأقلّ مناطق (ج) التي تمثل أكثر من نصفها كمرحلة أولى، والهدف الثاني في تقسيم المجتمع «الاسرائيلي» الى ثلاث فئات: فئة اليهود من اليمين هم الدرجة الأولى مع امتيازات للمحاكم الحاخامية التي تعتمد التشريعات التوراتية، واليهود من غير اليمين والفلسطينيين وهم الفئة الأقّل حظاً.
ـ (المجتمع الإسرائيلي) أبدى حيوية عالية يُحسد عليها في الدفاع عن الجهاز القضائي على مدى إثني عشر أسبوعاً، فتظاهر مئات الآلاف في جميع المدن الرئيسية وأمام مقر رئيس الدولة والبرلمان والحكومة ومنزل رئيسها، وساهمت كثير من الشخصيات النافذة في انتقاد الحكومة من رؤساء وزارات سابقين وقادة جيش وأمن وحتى رئيس الدولة صاحب «المنصب الشرفي والأدبي»، النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، ووصلت الأمور إلى حدّ أجبرت رئيس الحكومة أن يذهب بمروحية لمقابلة الوزير الأميركي في المطار بسبب وجود ربع مليون متظاهر يحاصرون المطار، وبصعوبة استطاع أن يجد قائد طائرة يطير به إلى روما في زيارة رسمية بعد رفض عدد كبير من الطيارين القيام بالمهمه احتجاجاً، وصلت الاحتجاجات إلى مشاركة مفتش عام الشرطة العلنية الذي رفض استعمال أساليب خشنة في التصدّي للمظاهرات التي بدورها لم تكسر زجاجاً أو تخرّب رصيفاً أو شارعاً، وأقال وزير الدفاع أيضاً لانتقاده تلك الإجراءات علناً.
حالة غير مسبوقة في دولتهم التي مرّت بأزمات كثيرة وخلافات حادة بين قواها السياسية والاجتماعية والدينية، ولكن حول قضايا ليست بهذا العمق، مثل التباين في وجهات النظر حيال ملفات سياسية أو خلاف بين اليهود الأرثوذكس والعلمانيين حول يوم السبت، أو غير ذلك من المماحكات التنافسية، في هذه الأزمة كانت خلافات في العمق، تمسّ جوهر الدولة وشكلها على حدّ سواء، الشكل الديمقراطي العصري الغربي (الخاص باليهود مواطني الدرجة الأول)، هذا النظام الذي يقوم على الفصل التام بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية…
مساء الإثنين وبعد أن كانت الساحة حكراً على المعارضة، وأدّت إلى إغلاق الموانئ البحرية والجوية والمعابر البرية لتصبح البلد مغلقة تماماً، كان ردّ الأحزاب المتطرفة بأنها ستتصدّى للتظاهرات طالما أنّ الشرطة لا تفعل ذلك بإنزال عشرات الآلاف من أنصارهم إلى الشوارع الأمر الذي قد يؤدّي إلى اقتتال (إسرائيلي ـ إسرائيلي) داخلي، بهذا بلغت القلوب الحناجر، واضطر نتنياهو لإلقاء خطاب متلفز يوحي به وكأنه نزل مؤقتاً عند مطالب المتظاهرين وأنه قد ينزل عن الشجرة العالية، فقال إنه أجرى مشاورات مكثفة مع شركائه في الحكومة وبناء عليه فقد قرّر تأجيل المصادقة على مشاريع القوانين إلى حين انعقاد الدورة البرلمانية المقبلة بعد انتهاء إجازة عيد الفصح اليهودي في النصف الثاني من شهر نيسان المقبل.
في حين أعلنت النقابات أنها قد أوقفت الإضراب إلا أنّ جهات اخرى مشاركة بفعاليات معارضة تريد الاستمرار بنشاطها، فهي صاحبة تجارب سابقة مع نتنياهو وتعرف تماماً قدراته على التنصّل من أيّ التزام.
دروس وعبر تخطر في بال المواطن الحزين في مجتمعاتنا، اعتذر الرئيس بايدن عن اسقبال نتنياهو في البيت الأبيض بسبب هذه الأحداث، إذ كيف يستطيع استقبال رئيس حكومة مشتبك مع شعبه، واتهم بعض ممّن حول نتنياهو الإدارة الأميركية بدعم وتمويل وتحريض التظاهرات، البيت الأبيض ستكون أبوابه مفتوحة الآن أمام نتنياهو، كيف يتمّ هذا التعاطي المزدوج في السياسة الأميركية والرئيس بايدن يستقبل في البيت الأبيض ملوكاً وحكاماً يذبحون شعوبهم ذبحاً إذا تظاهروا أو أبدوا أدنى معارضة.
من الدروس والعبر أنه في حين كان نتنياهو مقاطعاً من البيت الأبيض ومن نقاباته وأحزابه ومجتمعه وجيشة وأمنه، لم يجد في العالم كله من يتعاطى معه إلا دولة الإمارات العربية التي وقعت معه في ذروة الأحداث إتفاقية للتجارة الحرة.
من الدروس والعبر أنّ عشرات ألوف المتظاهرين لم يقوموا بأعمال تخريب ولم ترافق تظاهراتهم مسلكيات عنيفة، ولم نسمع بأحد من المتظاهرين ضرب أو سحل أو قتل، فيما نرى في بلادنا أنّ معارضاً يظهر محتجاً على وسائل التواصل الإلكتروني يُقتل أو يُسجن أو يُضرب.
من الدروس والعبر أن يتمّ تشكيل مجلس قضاء مع صلاحيات تفوق صلاحيات مجلس القضاء برئاسة رئيس السلطة التنفيذية، ولا يحدث أيّ احتجاج لا بل والمجتمع لم يهتمّ بالخبر أصلاً، كيف يعيش الناس في مجتمع أضرب به الأطباء والصيادلة والمحامون ومعلمو المدارس وينقطع الطلاب عن الذهاب إلى مدارسهم لشهور طويلة فيما أصحاب المعالي وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، (وإذا كان سمعان مش بالضيعة، فإن ابن رشيق القيرواني الأندلسي كان يرى: مما يزهدني في أهل أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد…
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة