تقدير موقف: واشنطن عالقة بين خياري التعطيل والتهدئة
ناصر قنديل
في الجانب التكتيكي لتقييم ساحات المواجهة، كل شيء يقول إن واشنطن ليست مستعدة للتراجع، ففي حرب أوكرانيا تواصل واشنطن إرسال المزيد من الأسلحة والأموال وتحثّ حلفاءها على فعل المثل، وفي التعامل مع روسيا والصين وإيران مزيد من المواقف التصعيدية، في كل ساحات التداخل أو الاشتباك، كملف الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا وملف تايوان مع الصين والملف النووي مع إيران. وفي المنطقة حيث ساحات اشتباك متداخلة، موقف أميركي متطرف من البقاء في سورية، والسعي لتعطيل التقارب مع الدولة السورية، سواء على الطريقة التركية، أو على الطريقة الخليجية. وفي اليمن سعي لتعطيل مسارات التسوية وتسريع لبناء قواعد عسكرية في جنوب اليمن، وفي لبنان مزيد من الضغط المالي نحو الانهيار، وتشجيع سياسي على الانسداد الرئاسي والتشدّد في مواجهة عروض الحوار والتسويات، ورهان على الفوضى والتمسك بحلول غير واقعية للملف الرئاسي.
على الصعيد الاستراتيجي كل شيء يقول بأن أميركا عاجزة عن المضي بالتصعيد، وأن خيار التهدئة حاجة ملحّة لها، وتعبير وحيد عما يلبي مصالحها، وأي مقارنة علمية حسابية لمعادلة عاملي درجة القدرة على تحويل الحرب إلى حرب وطنية ودرجة القدرة على توفير شروط النصر في حال خوضها، يقول إن النتيجة لن تكون لصالح أميركا، وسواء كان الطرف المعني بالحرب روسيا أو الصين أو إيران. فالحرب المفترضة سوف تخاض في جغرافيا الطرف المنافس أو الخصم، أو في جغرافيا قريبة منه، والحرب سوف تكون وجودية ومصيرية بالنسبة لهذا الطرف، وهي ليست كذلك في الأمرين بالنسبة لواشنطن، بالمقارنة مع موسكو وبكين وطهران. وهذا مغزى كلام رئيس أركان الجيوش الأميركي مارك ميلي عن فرضية اجتماع الدول الثلاث في حال حرب أميركية مع إحداها، وعجز أميركا عن تحمل تبعات مثل هذه الحرب، التي تبدو خياراً للتقييم والنقاش أميركياً، ما استدعى تحذيرات ميلي من المخاطر، ومأزق واشنطن التي تواصل التصعيد التكتيكي يكمن في أنها تخوض معركتها باللعب على حافة الهاوية دون استراتيجية خروج، فتبدو عالقة على أعلى الشجرة ولا تملك سلماً للنزول إلا عندما يبلغ حلفاؤها لحظة العجز عن مواصلة المواجهة خصوصاً في أوكرانيا، كما يبشر فلاديمير زيلينسكي بمرحلة ما بعد باخموت.
في المنطقة تواجه واشنطن ثلاثة مسارات خطرة، الأول الخط البياني الصاعد كماً ونوعاً للعمليات التي تستهدف قواتها في سورية، والتي تبدو ترجمة لقرار بترحيل قواتها من سورية، وقد تحوّلت إلى أداة رد على الغارات الإسرائيلية. وهذا المسار معرض لمزيد من التعقيدات مع الانفتاح السعودي القادم الى سورية ومن خلفه عودة سورية الى الجامعة العربية، ومعه اهتمام خليجي بوضع خطة لإعادة النازحين يتم تمويلها خليجياً. وبالتوازي تقدم المسار التركي السوري، وما يتبعه من انفراجات في شمال غرب سورية ستكون أولى ترجماتها العملية فتح الطريق الدولية أم 4، التي تربط أوروبا بالخليج عبر تركيا وسورية، ما سيجعل العقوبات الأميركية وفرضية الحصار أقل قيمة وأضعف تأثيراً، وفي التشويش على التفاهم السعودي الإيراني ورعايته الصينية، تركز واشنطن على محاولة خلق تعقيدات في اليمن، لكنها ستواجه تحدياً بتجاهل هذه العراقيل، بتفاهم بين أنصار الله والرياض يترك التعامل مع القواعد الأميركية لأنصار الله بالشكل المناسب على الطريقة السورية. وفي فلسطين المحتلة مأزق كبير ناتج عن الانشقاق الإسرائيلي الكبير وتداعياته، ونمو المواجهة الفلسطينية مع الاحتلال، ومخاطر تحوّل هذه المواجهات الى انفجار كبير تدخل فيه قوى المقاومة في غزة وخارجها أيضاً. وفي لبنان معادلة رسمها الأمين العام لحزب الله جوهرها أن مواصلة التعطيل والدفع بالفوضى سوف يجعل المقاومة تتخذ قرار الحرب على «إسرائيل» وفق ثنائية، «تمسكني من يدي التي توجعني فسوف أمسكك من يدك التي توجعك».
خلال شهور سوف تكون واشنطن مع تحوّلات وتطورات يضيق معها هامش المناورة، وتضطر للاستجابة لقانون المصلحة بتغليب السعي نحو التهدئة على الرغبة بالتصعيد والتعطيل. الحرب في الشرق الأوسط تبدو انزلاقاً ممكناً، ترتفع احتمالاته كل يوم، وسوف يكون على واشنطن لمنعه تكرار ما فعلته مع ترسيم الحدود البحرية للبنان، شراء الوقت بالتنازلات دون أمل بتغيير المعادلات، بمنع جماعاتها في لبنان من التهديد بالتقسيم، ودفعهم إلى طاولة الحوار بحثاً عن حلول، وفي فلسطين فك وتركيب سياسي يبعد شبح الانفجار، وفي اليمن تشجيع خيار التسوية، ومع إيران تسريع العودة إلى التفاهم النوويّ، وانسحاب كامل من سورية، وفتح الباب لحلول في قلبها توليفة لفك الحصار ورفع العقوبات، فيبقى طريق تدفق النفط والغاز من الشرق الأوسط آمناً نحو أوروبا التي ينتظرها الانفجار أيضاً، بانتظار ما ستحمله الشهور المقبلة في حرب أوكرانيا، لتبرير النزول عن الشجرة، وتمهيداً لما سيكون عليه الحال مع الصين من بوابة تايوان.
الخيارات الباردة تؤخذ على الساخن أحياناً كثيرة، وكثرة الدخان لا تعني بالضرورة أن النار التي تحجبها خرجت عن السيطرة.