نافذة ضوء
النفسية الراقية إنتاجها راقٍ
} يوسف المسمار*
لقد كانت ثورة العقل السوري في التاريخ نتيجة كمال نموّه واستعداده ونضوجه، وكانت متوازنة في ميداني المادة والروح، بل كانت أكثر من ذلك مدرحية الإنتاج والإبداع بحيث لا نستطيع الفصل، ولا يمكن الفصل بين ما هو مادي وما هو روحي، بل إن كل إنتاج مادي راقٍ يعبّر عن روحية راقية. وإن كل إنتاج روحي راقٍ يعبّر أيضاً عن تقدّم مادي راقٍ. وكذلك كل إنتاج متخلّف سواء كان مادياً او روحياً يعبّر عن عقلية متخلفة.
فلو لم يكن وراء الاستقرار في البيئة الطبيعية وإشادة العمران واستصلاح الأرض وفلحها وزرعها وريّها وحصاد إنتاجها، ولو لم يكن وراء تدجين الحيوان والاستفادة من حليبه وبيضه ولحمه وجلده جماعة راقية، وعقل ناضج، ونفسية مؤهلة ممتازة، لما كان ذلك الرقيّ ممكناً، ولما تقدمت أساليب البناء والعمار والزراعة والصناعة وتربية الحيوانات الأليفة.
كل هذا يعبّر أصدق وأوضح تعبير عن عظمة النفسية السورية الرائدة في إنتاجها الفكري والمادي، والمتوازنة في إبداعاتها العملية والروحية، الى جانب منجزاتها المتطورة على الأرض إبداعاتها المتفوقة الصاعدة الى السماء من أفكار ومعارف وشرائع وقوانين ورسالات دينية وآداب وفنون وكلها تنبع من تلك الروح النورانية السورية متجهة بالخيرات، ونسائم العطور، ومشاعل النور الى الإنسان حيثما وُجد وأقام على هذا الكوكب البديع السابح في لانهائية الكون الماثل أمامنا.
بدأ الدين في سورية التاريخ من الأرض، ومن المعلوم الواضح الذي هو الإنسان باتجاه الخالق المجهول أي المجهول للإنسان الذي أوجد الكون والسماء والأرض والنجوم والحياة والبشر وغير ذلك من الكائنات، فرسم هذا الإنسان لنفسه طريقاً متدرجاً في الصعود يصعد عليه من درجة الى درجة، ومن مرتفع الى مرتفع، ومن قمة الى قمة، ومن فضاء الى فضاء، ومن سماء الى سماء دون أن يقطع صلته بالأرض التي تستمرّ بتزويده بالمعلوم الذي ألفه وعاشه ويعود اليها ويزوّدها بأخبار المجهول الذي كان يكتشفه ويزداد به معرفة وعلماً، فتزداد حياته رقياً وتحضراً ورفاهية.
هكذا سعى المتنوّرون والحكماء من أبناء أمة الهلال السوري الخصيب منطلقين من الأرض باتجاه السماء من أجل الوصول الى معرفة المجهول منذ الأزمنة السحيقة في القدم محاولين اكتشاف الأسرار المحجوبة، والنواميس الطبيعية المجهولة وإخضاعها لمعارفهم أملاً في الوصول الى الحقيقة التي كانت تشغل بالهم وتحضّهم على الاجتهاد من أجل اكتشاف القاعدة الذهبية التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والتي عبّر عنها العالم الاجتماعي والفيلسوف السوري أنطون سعاده في مؤلفه (الصراع الفكري في الأدب السوري) بأنها:
«طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياةٍ أجود، في عالمٍ أجمل، وقيَم ٍ أعلى. لا فرق أن تكون هذه الحقيقة ابتكارك أو ابتكاري أو ابتكار غيرك وغيري، ولا فرق أن يكون بزوغ هذه الحقيقة من شخص وجيهٍ اجتماعياً ذي مال ٍ ونفوذ، وأن يكون انبثاقها من فرد ٍهو واحد من الناس، لأن الغرض يجب أن يكون الحقيقة الأساسية المذكورة وليس الاتجاه السلبيّ الذي تقرّره الرغائب الفردية، الخصوصية، الاستبدادية».
هذه هي الحقيقة التي أرادتها وتريدها سورية لنفسها وللإنسانية كلها: حياة أجود، وعالم أجمل، وقيَم أعلى. ومن أجل هذه المقاصد العليا كانت وصايا حكمائها، وتعاليم رسلها، وإرشادات متنوّريها، وشرائع مشرعيها، وعلوم علمائها، وآداب أدبائها وشعرائها، وإبداعات فنانيها، وأنظمة ونواميس روّاد اكتشافاتها واختراعاتها.
وهل أجود وأجمل وأسمى من خصائص هذه النفسية التي فرضت حقيقتها على الوجود بأهليتها لا بعجزها، وبنشاطها لا بخمولها، وبتفوقها لا بتخلفها، وبرقيّ مطامحها لا بانحطاط مطامعها، وبسموِّ مُثلها العليا لا برداءة شهواتها الدنية؟
وهل أسمى من هذه النفسية الراقية التي كانت منذ البداية ولا تزال تجدد نفسها فلا تشيخ وتهرم، وتهذِّب وتصلح النفوس المريضة لتسدّد خطاها في الطريق القويم؟
وهل أرقى من مواجهة الباطل بالحق، والظلم بالعدل، والفساد بالصلاح؟
وهل أنبل وأشرف من التصدّي للغباء بالوعي، وللخوف بالشجاعة، وللجبن بالبطولة؟
وهل يوجد نهج أفضل من وقفة العز في التصدي لمن يريد اغتصاب حقوقنا، وتدمير ديننا، وامتلاك وطننا، وسحق شعبنا والقضاء علينا؟
إن كل ما يجري اليوم على أرضنا وضد وجودنا في فلسطين ولبنان والعراق والشام والأردن والكويت ليس غريباً ولا مستهجناً ولا صعب التفسير، بل إنه شيء طبيعي بكل ما تعنيه كلمة طبيعي. لأنه كما قال العالم الاجتماعي أنطون سعاده:
«ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة. فبقدر ما يبذل لهم من المحبة يبذلون له من البغض».
ولذك فإن من الوهم أن ننتظر من المجرمين سلاماً، ومن المتوحشين أماناً، ومن ميّتي الضمائر إنصافاً، ومن عديمي الأخلاق فروسيةً وكرماً. فإن لم نكن أهلاً للنهوض، فلن ينهض بنا أحد، وإن لم ندافع عن أنفسنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا فلا حق لنا في الحياة الكريمة.
*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.