التغيير الدولي وانتصار الجغرافيا على “نهاية التاريخ”
ناصر قنديل
– لن نستطيع استيعاب حجم الانعكاسات المتسارعة لنهاية الهيمنة الأميركية على منطقتنا، ولا تفسير أشكال التموضع المتسارع في صفوف اللاعبين الفاعلين في المنطقة، إذا بقينا عند حدود ترسمها ضفاف السياسة والمصالح المباشرة والحروب، وقد كانت جميعها انعكاساً لتحولات أعمق جعلت ظهور هذه الانعكاسات حتمياً؛ فموقع السعودية في قطاع الطاقة وما يمليه من مصالح حيوية مع كل من روسيا والصين، والفشل الأميركي في أفغانستان وصولاً للاعتراف بالفشل وقرار الانسحاب، وحروب المقاومة وصمود قواها وحكوماتها في سورية وإيران، والصعود الروسي والنهوض الصيني، كلها عناصر حقيقيّة وصحيحة لعبت دوراً في التظهير السياسي للتحوّلات الجارية منذ انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي وتقدّم أميركا كقوة عالميّة وحيدة مهيمنة، تخوض الحرب دون خصم يواجهها، وتفرض العقوبات دون قانون دولي يمنعها، حتى بدأ الخط البياني الأميركي من تراجع الى تراجع، ومن أزمة الى أزمة، فما هي التحوّلات العميقة التي نتحدّث عنها؟
– خاضت واشنطن معركة السيطرة على العالم تحت عنوان تحويل العولمة، بما هي تعبير عن ثورة تكنولوجية أضعفت أهميّة المسافات الفاصلة في الجغرافيا إلى مصدر لإلغاء الجغرافيا، بما تختزنه من خصوصيّات ومقدرات تميز الشعوب والأمم والدول، وكانت العالمية هي النسخة السياسية للعولمة، بمعنى الحكومة العالمية، التي لا تعترف بالجغرافيا، والفرد المعولم الذي يجري إلغاء خصوصياته الثقافية والدينية والتاريخية والقومية ليصير فرداً من أتباع الحكومة العالمية يشترك في السباق على الرفاه، بدلاً من التمسك بالجذور، لكن العولمة بما هي ثورة تكنولوجية منحت المنصات والقدرات والفرص للسباق بين مفهومي الفرد المنتمي لخصوصية ثقافية وجذور دينية وقومية، والحكومة العالمية، فكانت العولمة التكنولوجية التي اختصرت مسافات الجغرافيا سبباً رئيسياً للتحول الذي رد الاعتبار للجغرافيا بصفتها الحامل للخصوصيات الثقافية الدينية والقومية، ولم ينتبه الأميركيون إلى أن التحوّل الذي ركبوا على موجته في تفكيك الاتحاد السوفياتي، هو التمسك بالخصوصية الثقافية والقومية والدينية، التي كانت مقموعة في زمن عولمة من نوع آخر مثلها الاتحاد السوفياتي، وتجاهل الأميركيون القاعدة البسيطة التي تقول إن الباب الذي تدخل منه لا يمكنك منع الآخرين من الدخول عبره. وها هو الغرب كله في حرب أوكرانيا يخوض الحرب بوجه روسيا تحت عناوين سبق أن أعلن موتها، عندما قال إن زمن السيادة والوطنية قد انتهى في ظل العولمة وما نتج عن العالمية.
– بمثل ما أصبح الفرد هو الوحدة التي تقوم عليها عولمة التكنولوجيا، حيث الاتصال بالتكنولوجيا فردي ولا يعبر من بوابة دولة أو قومية أو دين، عادت للفرد أهميته في مواجهة الآلة، حيث صار هو العمود الفقري للحروب، فعادت الجغرافيا تقاتل نهاية التاريخ، فالتاريخ من صناعة الجغرافيا المتعددة المتعاونة والمتحاربة، وظهر من رحم الخصوصية الثقافية والدينية والقومية، الفرد المقاتل بالروح مقابل الفرد المعولم المنتمي لظلال الحكومة العالمية المستند الى تفوق الآلة، وسقطت نظرية حرب أكلاف صفر، ومثلها نظرية لا حروب في البر بعد الآن والحرب تحسم من الجو، التي تحدث عنها دونالد رامسفيلد في حرب العراق، وجاءت حرب تموز 2006 تعبيراً عن أول مواجهة مكتملة بين النموذجين، وكان انتصار المقاومة في هذه الحرب إعلاناً كاملاً لفشل جيوش الأفراد المعولمين في مواجهة جيوش أفراد الخصوصية الثقافية والدينية والقومية، وتكرّر الأمر في غزة وكانت أفغانستان المحطة الفاصلة.
– تغير مع عودة الجغرافيا والخصوصيات الثقافية والدينية والقومية، وعودة الفرد وعودة الروح، ما أكمل المشهد الجديد، حيث ظهرت الدولة الوطنية قادرة على الصمود والمقاومة بوجه حروب أميركية شديدة الضراوة وكانت ذروتها في الحرب على سورية، حيث وقفت الدولة الوطنية السورية بخلفيتها القومية، والدولة الوطنية الإيرانية بخلفيتها الإسلامية، تعبران عن الخصوصيتين الكبيرتين في المنطقة، العروبة والإسلام، وكان حزب الله كتعبير مزدوج عن هاتين الخصوصيتين القيمة المضافة في حسم وجهة الحرب التي أعادت تثبيت مكانة الدولة الوطنية في وجه الحكومة العالمية، وتلاقت مع هذه المعادلة والدولة الوطنية الروسية بخلفيتها القيصرية والأرثوذكسية، ثم تواصل التغيير في حرب اليمن حيث ظهرت التكنولوجيا الحربية الجديدة التي استثمرت على العولمة بصفتها ثورة تكنولوجية، قادرة على إسقاط قانون الحرب القديم، وتمكّنت الطائرات المسيّرة والصواريخ المجنحة الصغيرة والدقيقة، من هزيمة حاملات الطائرات العملاقة، وهذه التكنولوجيا الجديدة قابلة للإخفاء والتمويه وبلوغ الأهداف بسرعة ودقة ولا يمكن وقفها، وها هي حرب أوكرانيا تقول الكلمة الفصل لجهة تفوق هذه التكنولوجيا وتموضعها مكان تكنولوجيا حروب الدبابات والطائرات التي حكمت الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن أبرز ما تغير أيضاً هو التغيير الذي أدخله الاقتصاد على مفهوم الدولة المهمة اقتصادياً، بعدما تمّ ربطه لعقود بحجم أرقام الناتج المحلي الذي لا يمكن منافسته لدى دول الاقتصاد الافتراضي، لتظهر العقوبات على روسيا أن الدول التي لا يمكن الاستغناء عنها ليست بالضرورة الدول التي تملك أعلى ناتج إجمالي، فمن يملك موقعاً لا يعوض في توفير موارد الطاقة لا يمكن الاستغناء عنه مهما كان حجم ناتجه الإجمالي، وهذا صحيح في حال روسيا وصحيح أيضاً في حال السعودية.
– أظهرت الجغرافيا عودة التاريخ، ووضعت قوانين جديدة لمساره، وفي زمن العولمة بما هي ثورة تكنولوجية تم ردّ الاعتبار لقيمة عدد السكان، المستهلكين والمتصلين، وصار للدول مكانة اقتصادية وسياسية ترتبط بعناصر يقع عدد السكان في موقع هام منها، لا تمحوه العوامل الأخرى من القوة والغنى، وصار النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للدول يرتبط طردياً بهذا العامل، وحيث على الدول التي تملك نفوذاً فائضاً أن تعيد التأقلم مع نفوذ يناسب حجمها السكاني ومحيطها الجغرافي، برزت فرص لنفوذ قابل للنمو للدول التي لا تملك ما يتناسب من نفوذ مع حجمها السكاني ومحيطها الجغرافي، عندما تمتلك قوة اقتصادية وعسكرية كافية لحماية هذا النفوذ. وهذا ما رسم نهاية حرب أفغانستان كنفوذ فائض يجب التخلي عنه، ويرسم مستقبل حرب أوكرانيا كنفوذ حيوي مشروع وممكن لروسيا، ويرسم مكانة الاتفاق السعودي الإيراني الصيني في معادلات النفوذ الإقليمي في المنطقة.
– العلم يتغيّر بسرعة تحت تأثير قوانين غير قابلة للإلغاء والتطويع، حتى ينمو نفوذ الدول الصاعدة الى حدود الإشباع التي تحدّدها مصادر قوتها السكانية والاقتصادية والعسكرية، ويتراجع نفوذ الدول المهيمنة الى عتبة الإشباع التي تمّ تخطيها كثيراً، لأن العولمة متعددة والعالمية أحادية، وعلى العالمية أن تخضع لقوانين العولمة، بعد التمرّد الفاشل الذي أعلن نهاية التاريخ.