السلحفاة الصينية والأرنب الأميركي
ناصر قنديل
ربما تختزل قصيدة النملة والصرصور للشاعر الفرنسي لافونتين حكاية العقدين الأخيرين بين الصين وأميركا. فالصيف الممتدّ خلال عقدين كان مساحة تنافس بين الصرصور الأميركي المغرور والمتباهي والواثق بقدرته على التحكّم بكل المشكلات وتفوّقه العبقري والاستثنائي، ومقابله النملة الصينية النشطة والجدية والقلقة من مشاكل الشتاء، والحصيلة التي نراها اليوم من تقدم اقتصادي صيني يجعل الصين المورّد الأول للسلع في العالم باعتراف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والشركات الأميركية الكبرى التي تتخذ من الصين مصنعاً لها، وبالتوازي تحوّلت الصين الى شريك تجاري أول لكل دول العالم بما فيها أميركا، وميزان التبادل التجاري دائماً بين الصين وأي دولة أخرى راجح لحساب الصين، وعندما حلّ الشتاء وشعر الصرصور الأميركي بالبرد أراد النهوض من الكبوة وقرّر البدء بالمنافسة، ليكتشف أنه غير قادر على التخلّي عن الصين، وأن الصناعات العالية الدقة التي يريد دخولها متأخراً ستكون كلفتها عليه أعلى من كلفة شرائها من الصين، وما دام الشتاء قد حلّ بعد صيف ممتدّ خلال عقدين على الأقل، فسوف يستمر الشتاء لعقدين آخرين كما يقول الخبراء الأميركيون، لتفتح مجدداً صفحة تنافس جديد، ليس أكيداً أن الصرصور سيغير طباعه فيها والطبع يغلب التطبّع، بينما ليس لدى النملة إلا ما يدفعها للمزيد من الحفاظ على الطباع.
في السياسة الخارجية كانت واشنطن أم السياسات التي تدير الأزمات الدولية، وواشنطن وسيط وطرف في كل نزاع أو حرب، وكل ملف لا تشارك واشنطن في التعامل معه محكوم بالفشل، وكل أزمات تبلغ مرحلة الخطر يتسابق أطرافها والمتضررون من استمرارها نحو واشنطن، ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه صارت أميركا مديراً للعالم، ترسم سلفاً ما يجب أن يكون ليكون، ولم يعُد في العالم من حروب إلا تلك التي تشنها واشنطن، لكن واشنطن المتباهية بقوتها ومكانتها وسطوتها، فشلت خلال العقدين الأخيرين من حل كل الملفات العالقة، فشلت بحسمها عبر الحروب، وفشلت بتقديم مبادرات سياسية قادرة على تقديم الحلول، كما في العراق وأفغانستان، وعندما حاولت توظيف فائض القوة لتقديم مقاربات ترجح كفة حلفائها، كما فعلت في القضية الفلسطينية وتبنيها لصفقة القرن ومسار التطبيع، وصلت الى طريق مسدود، وعندما ورّطت حلفاءها بحروب جانبية وصراعات ثانوية، كما فعلت في توريط تركيا بالحرب على سورية، وتوريط السعودية بالحرب على اليمن، ورفع وتيرة استبدال العداء لـ»إسرائيل» بالعداء لإيران، تركتهم في منتصف الطريق وحدهم، عندما صارت تبعات الحروب فوق طاقتهم على الاحتمال، حتى بدأوا يتموضعون على ضفاف تسويات للحروب والنزاعات بعيداً عن الخيارات الأميركية.
في السياسة الخارجية تحفظت الصين عن إطلاق أي مبادرات مستقلة رغم استشعارها بالتقدم والقوة، وتواضعت رغم ذلك، وعندما قرّرت واشنطن الانسحاب من أفغانستان معلنة سقوط خيار الحرب بعد الفشل الذريع، وسقوط المشروع السياسي عبر التسليم بانتصار حكومة طالبان وانهيار نظام عبد الغني، بدأت بكين بهدوء تستعدّ للتحرك المدروس والهادئ، وكانت أولى الإنجازات المصالحة والاتفاق بين السعودية وإيران، وكانت المفاجأة لواشنطن كافية لمعرفة نهاية زمن وبداية زمن جديد دولياً، وجاءت الأدلة على حجم التغيير وموقعه في التراجع في السياسات الأميركية، من خلال انطلاق تسوية سريعة في اليمن تلبي تطلعات أنصار الله، وانفتاح سعوديّ متسارع على سورية بخلاف المشيئة الأميركيّة، وصولاً الى تسوية العلاقة السعودية مع حركة حماس بما يسبب الغيظ للأميركيين. وها هي الصين التي أطلقت مبادرة رفضتها واشنطن للتفاوض حول الحرب في أوكرانيا تتلقى ترحيباً أميركياً بمبادرتها، التي قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنها المبادرة الوحيدة على الطاولة، وخرج الرئيس الأوكراني الذي كان يشترط بكل مبادرة سياسية تضمينها التزاماً روسياً بالانسحاب يغرّد فرحاً بعد تلقيه الاتصال من الرئيس الصيني، مسارعاً بتعيين سفير أوكراني في بكين.
في الاقتصاد حكاية الصرصور والنملة، لكن في السياسة حكاية الأرنب الأميركي والسلحفاة الصينية تبدو أكثر تعبيراً.