حرب الجنرالَين!
} د. علي أكرم زعيتر
أينما ولّيت وجهك في لبنان أو أيّ قطر من الأقطار العربية، فثمَّة من يسألك: ماذا يجري في السودان اليوم؟
منذ نشوب حرائق الربيع العربي السيّئ الذكر، والناس في وطننا العربي، تخشى سماع كلمات من قبيل: »انقلاب، تظاهرات، ميادين، ساحات، اعتصامات، حشود غفيرة، إضراب عام.. إلخ«، ومعها كل مفردة أو مرادف من مرادفات الثورة والحقل المعجمي الخاص بها، نظراً لما عاينَه هؤلاء على مدى الأعوام الماضية من مآسي وأهوال، سواء في ليبيا أو سورية أو اليمن.
الأحداث الجارية في السودان اليوم، ربما تكون أعادت إلى الأذهان صوراً من الماضي البعيد، أيام كانت البلدان العربية تنام على انقلاب وتصحو على انقلاب. وربما تكون أيضاً أعادت إلى الأذهان صوراً من الأمس القريب، تحديداً منذ 12 عاماً، حينما عمَّت ما يسمّى بثورات الربيع العربي عدداً من الأمصار العربية، فحوّلت ربيعها إلى شتاء قارس، وصيفها إلى جحيم لا يُطاق.
المسلسل الذي تدور أحداثه في السودان منذ أيام، حظي بشهرة واسعة في الوطن العربي، فالناس في شهر الصيام اعتادت الجلوس إلى التلفاز لمتابعة المسلسلات الرمضانية. حتى أنّ اسمَي بطلَي المسلسل الرئيسيَّين حميدتي والبرهان، باتا يحظيان برواج كبير بين المشاهدين العرب، والجميع بات يحفظهما عن ظهر قلب، وأنَّى لا، وهما الفارسان العائدان من التاريخ، حفيدا عنترة العبسي، ووصيفاه المعاصران.
أسماء الألوية والكتائب (الدعم السريع…) أسماء المدن التي تدور فيها أمهات المعارك (أم درمان، العاصمة الخرطوم، مَرَوي)، أسماء الأبطال والكومبارس. كلّ تفاصيل المسلسل تقريباً باتت معروفة للجميع، خلا التفصيل الأهمّ والرئيسي، وهو سبب اندلاع المواجهات، أيّ حَبكة المسلسل وعُقدته!
ما أسباب تفجّر الصراع بين الجنرالَين الحليفين حميدتي والبرهان؟ هذا بالضبط ما يودّ أن يعرفه المشاهد/ المواطن العربي، فهلّا إلى الإجابة من سبيل؟
حتى الساعة لم يُفشِ أيّ من المتصارعَين الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى تأزم الموقف بينهما. كِلاهما لا يزال يتذرّع بحجج واهية من قبيل (الحرص على الديمقراطية، تمهيد الطريق لتسنُّم رئيس مدني الحكم في السودان، الدفاع عن مصالح الشعب السوداني وسواها من الأسباب والذرائع الزائفة)، وعليه، فإنّ الإجابة على هذا السؤال تحتاج منّا شيئاً من التحري والتقصِّي لمعرفة الملابسات.
وللوصول إلى غايتنا هذه، كان لا بدّ أن نضع نصب أعيننا خارطة طريق، نستعرض من خلالها كلّ الأسباب المحتملة، على أن نجري لها غربلةً، فنستبعد الاحتمالات الضعيفة، ونستبقي الاحتمالات المعقولة والمنطقية، ثم نستخلص في نهاية المطاف السبب الحقيقي، بعد أن نكون قد استنفذنا كلّ الوسائل العلمية المتاحة.
ومن بين الاحتمالات المطروحة، نذكر الآتي:
أ ـ غالباً، عندما يقع أيّ حدث أمني، أو ينشب أيّ صراع أو اقتتال داخلي بين العرب، فإنّ أصابع الاتهام تتوجه مباشرةً إلى الكيان الصهيوني، باعتباره المستفيد الأول من الفوضى في الوطن العربي، فهل ما يجري في السودان حاليّاً من اقتتال بين حميدتي والبرهان ناجم عن لعبة استخبارية إسرائيلية، وهل إسرائيل أساساً مهتمة بالشأن السوداني؟ وفي حال كانت مهتمة، فإلى أيٍّ من الجنرالَين هي منحازة؟
لا يَغرب عن بال أحد، أنّ للكيان الصهيوني أطماعاً في كلّ قطر من الأقطار العربية، وبطبيعة الحال، ليست السودان ببعيدة عن هذه الأطماع، ولعلّ ما قيل حول دور ما لـ «إسرائيل» في تأجيج النزاع على سدّ النهضة بين السودان ومصر وأثيوبيا، كافٍ وحده، لتبيان حجم الاهتمام الذي يوليه الكيان الصهيوني بالسودان.
إلا أنه في ما خصّ الصراع الذي نشب مؤخرّاً بين البرهان وحميدتي، فمن غير الواضح ما إذا كان لإسرائيل دور في ما يجري.
إنّ الأخبار الواردة من السودان تشي بأنّ كِلا الرجلين يتنافسان في ما بينهما من أجل كسب ودّ «إسرائيل»، وكِلَيهما يبدوان وكأنهما يحاولان تقديم أوراق اعتماد لدى أميركا من البوابة الإسرائيلية، لا بل إنّ حكومة نتنياهو نفسها عرضت أول من الأمس على الطرفين التوسط بينهما من أجل إنها القتال.
لذا فمن البديهي أن نستبعد أيّ دور لـ «إسرائيل» في ما يجري. يبدو أنها ليست من ضمن قائمة المشتبه بهم، وإنْ كنا لا ننفي أن يشكل الاقتتال الحاصل حاليّاً مورد إفادة لها على المديَين البعيد والمنظور.
ب ـ شجبت الولايات المتحدة الانقلاب الذي نفذه الرجلان على حكومة حمدوك المدنية عام 2021، وبادرت إلى قطع علاقتها بالمجلس العسكري الذي يتزعّمانه، ما يعني أنّ أيّاً منهما لا تجمعه علاقات خاصة أو استثنائية بالولايات المتحدة، وبالتالي لا مصلحة للولايات المتحدة في تقوية طرف على آخر، إلا بمقدار رغبتها في تدمير السودان.
ج ـ كِلاهما اشتركا في الانقلاب على الرئيس المخلوع عمر البشير، ذي التوجهات الإخوانية الواضحة، ما يعني أنّ كِلَيهما لا يحظيان بتأييد فلول الإخوان.
إنّ استبعاد ضلوع الإخوان في دعم طرف ضدّ الآخر، يعني في جملة ما يعنيه أنّ قطر وتركيا اللتين تنشطان في دعم الحركات الإخوانية أينما وُجِدت ليستا ضمن دائرة الشبهة، إلا بمقدار ما ترغبان في قلب الطاولة على رؤوس الجميع، ثأراً لخروجهما المذلّ من السودان، جراء الإطاحة بنظام البشير.
د ـ تجمع الرجلين علاقات وطيدة بالإمارات والسعودية والمنظومة الخليجية. وما مشهد الجنود السودانيين الصرعى في اليمن عنَّا ببعيد.
لقد حرص كلٌّ من حميدتي والبرهان طوال المدة الماضية على أطيب العلاقات مع السعودية وملحقاتها الخليجية، فكان أن دأبا على رفد جبهات ومحاور اليمن المختلفة بما تحتاجه من مقاتلين.
مقاتلو الجنجويد الذين باتوا يعرفون منذ العام 2013 بقوات الدعم السريع، عقب دمجهم في عديد القوات العسكرية السودانية، أبلوا «بلاءً حسناً» خلال معارك اليمن، وهؤلاء كما نعلم يأتمرون مباشرة بأمر حميدتي، ما يعني أنّ الأخير مرضي عنه خليجيّاً شأنه شأن البرهان الذي يتولى قيادة الجيش السوداني.
وعليه نقول، ما دام الخليجيون راضين عن البرهان ونائبه (حميدتي)، فهذا ينسحب على الموقف المصري بطبيعة الحال، لأنّ مصر والسعودية تعملان عربيّاً وإقليميّاً على الموجة ذاتها. فإذا كانت علاقة السعودية طيبة بالرجلين، فلا بد أن تكون علاقة مصر بهما طيبة.
صحيح، أنّ أحد ألوية الدعم السريع حاصر مقرّاً يتمركز فيه عدد من الجنود المصريين في الخرطوم، وأرغمهم على تسليم أنفسهم، إلا أنّ ما أُعلن لاحقاً من قبل الطرفين المصري والدعم السريع، بدّد سوء التفاهم الذي حصل، وقطع الطريق على أي محاولة للإيقاع بينهما.
إنّ لمصر في السودان مصالح قومية لا تخفى على أحد. وقديماً، لطالما حُكي عن حديقة مصر الخلفية (السودان) ومدى ارتباط أمن البلدين. وبالتالي، فإنّ أيّ زعزعة لاستقرار السودان، من شأنها أن تنعكس سلباً على استقرار مصر وأمنها، الأمر الذي يفنّد كلّ الادّعاءات حول تورّط مصر في ما يجري بحجة مناوءتها لحميدتي.
هـ ـ إنْ لم تكن الولايات المتحدة، أو »إسرائيل«، أو السعودية والإمارات، أو تركيا وقطر، أو مصر هي التي تقف خلف هذا الاحتراب الداخلي السوداني، فمن ذا الذي يقف خلفه يا ترى؟
من بين اللاعبين الدوليين والإقليميين المؤثرين لم يبقَ إلا روسيا والصين، وهما كما نعلم تبحثان منذ مدة عن موطئ قدم لهما في أفريقيا، فهل يعقل أن تكونا مسؤولتين عمَّا يجري حاليّاً في السودان؟
من يتابع التطورات السياسية الحاصلة في القارة السمراء، يلحَظ أنّ هناك سعياً روسيّاً محموماً، للتمدّد العسكري هناك، يواكبه سعي صيني بالوتيرة نفسها طلباً للتمدّد الاقتصادي، مقابل تراجع واضح في الدور والنفوذ الغربي هناك.
فها هي مالي على سبيل المثال، المستعمرة الفرنسية السابقة، والدولة الأفريقية الأكثر تبعيةً لفرنسا في العصر الحالي، والتي كانت حتى الأمس القريب تعدّ خزان فرنسا من المواد الخام، قد أدارت ظهرها أخيراً لها، ويمّمت وجهها شطر الصين.
لقد طردت السلطات المالية ورثة الاستعمار الفرنسي، وفتحت مناجمها أمام الاستثمارات الصينية الواعدة، ومن يدري فربما فتحت أذرعها لاستقبال النفوذ العسكري أيضاً!
قبل عام، أجرى حميدتي بصفته نائب رئيس المجلس العسكري زيارة رسمية إلى موسكو، التقى خلالها المسؤولين الروس. وقد نقلت وكالات الأنباء وقتها أنّ السلطات الروسية تقدّمت بطلب رسمي إلى حميدتي من أجل بناء قاعدة عسكرية روسية في السودان، مطلة على البحر الأحمر، وأنّ حميدتي أبدى تجاوباً منقطع النظير آنذاك، فهل يدفع حميدتي اليوم ثمن تلك الحماسة المفرطة التي أبداها حيال الطلب الروسي؟ هل أوْعزت أميركا إلى البرهان شنّ حملة عسكرية على قوات الدعم السريع، بهدف القضاء على النفوذ الروسي المستجدّ، أو بالحد الأدنى بهدف تبديد أي حلم روسي بتوفير موطئ قدم في القارة السمراء؟
في عددها الصادر قبل أسبوع، أشارت صحيفة «التايمز» الأميركية إلى سيناريو من هذا القبيل، فزعمت على لسان أحد كتابها، أنّ دوائر القرار في الغرب تشكّ في وجود صفقة ما بين حميدتي ورئيس مجموعة فاغنر الروسية التي تقاتل إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، ما حدا بالولايات المتحدة إلى الإيعاز للحكومة المصرية الشروع في تقديم الدعم اللازم لقوات البرهان.
وتسوِّق الصحيفة روايتها، استنادً إلى مزاعم حول امتلاك شركة التعدين الخاصة بفاغنر »ميرو« منجماً للذهب في السودان، يحظى بحماية ورعاية قوات الدعم السريع.
إنّ إعلان روسيا الصريح عن رغبتها في إقامة قاعدة بحرية في السودان، معطوفاً عليه العلاقة التي تجمع بين فاغنر وقوات الدعم السريع، فضلاً عن الاندفاعة الروسية نحو بسط النفوذ وإيجاد موطئ قدم، كلّ ذلك، قد أثار على ما يبدو حفيظة أميركا ما حدا بها إلى تحريك البرهان.
قد يبدو هذا السيناريو مقبولاً للوهلة الأولى، ولكن بعد التفكير مليّاً في مآلات الأمور يتضح أنّ هناك أسباباً أخرى وراء تفجر الأوضاع في السودان، ربما استغلتها لاحقاً القوى الكبرى الباحثة عن نفوذ لها، فدخلت على خط الصراع، تارةً إلى جانب هذا، وتارةً إلى جانب ذاك.
من الواضح لنا أنّ السبب الوحيد الذي أدّى إلى تفجر الأوضاع في ذلك البلد الشقيق، هو رغبة كل من الجنرالين الحليفين (سابقاً) في الاستحواذ على السلطة.
القصة باختصار، صراعٌ على الحكم، استغلته بعض الأطراف الدولية، علَّها تسجل هدفاً في مرمى القوى المناوئة لها. هذا كل ما في الأمر.