التيار الوطني الحر والمقاربة الرئاسية
ناصر قنديل
بمعزل عن لغة التخاطب السلبي بين التيار الوطني الحر وتيار المردة على خلفية الموقف من ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وما قاله كل من فرنجية ورئيس التيار النائب جبران باسيل في هذا الإطار، الأكيد أن التيار يعارض انتخاب فرنجية وقد عبر عن هذا الموقف بقوة، وصولاً الى وضع علاقته وتفاهمه مع حزب الله على المحك على خلفية هذا الموقف، وهو لا يزال عند موقفه المعارض والرافض، وهذا حقه الطبيعي الدستوري والسياسي والنيابي. وبالمقابل يعرف التيار أن حليفه السابق الأقرب الذي يمثله حزب الله ماضٍ بدعم ترشيح فرنجية، ومعه حليفه الثابت حركة أمل ورئيسها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ومن حولهما نواب يزيدون عن العشرين نائباً، من مؤيدي ترشيح فرنجية أو من حلفاء ثنائي حزب الله وحركة أمل ومن طوائف مختلفة، والأكيد أن رفض التيار للسير بانتخاب فرنجية يمثل عقبة رئيسية في طريق وصوله أو قدرته على الحكم بالحد الأدنى، كما قال فرنجية نفسه، في إشارته الى ان تأمين الـ 65 صوتاً يبدو ممكناً لكن المسألة ليست في الانتخاب فقط بل بالقدرة على الحكم، خصوصاً أن أي تفكير بتفكيك الجبهة المسيحية المناوئة لانتخاب فرنجية يشير بوضوح الى أن التيار هو الجهة المطلوب أو المرغوب انضمامها لانتخاب فرنجية كي يستقيم الوضع مسيحياً.
البلد والتيار في منتصف الطريق نحو حقائق تتبلور بقوة أكثر يوماً بعد يوم، أولها وأهمها أن الاستقطاب الدولي والإقليمي الذي حكم المنطقة خلال عهد الرئيس ميشال عون وأدى الى تعطيل الكثير من فرص نجاحه وكان أحد الأسباب في فرض مسارات مالية لعبت دوراً في الانهيار، ومحوره الصراع المفتوح بين السعودية وإيران، لم يعد قائماً، وشيئاً فشيئاً وبسرعة يحل مكانه تقارب وتنسيق، ينطلق من أن المقاربة السعودية نحو إيران تأتي من خارج المظلة الأميركية التقليدية التي رافقت كل خطوات السياسة الخارجية السعودية تاريخياً، وأن وجود الصين كشريك ثالث في الاتفاق ليس شأناً بسيطاً. وها هي حرب اليمن توضع على سكة الحلحلة، والعلاقة السعودية السورية تسارع الخطى الإيجابية، والسعودية تبادر لإنهاء الأزمة مع حركة حماس، ما يجعل الخصومة السعودية مع حزب الله التي دفع التيار بعض أثمانها في طريق الزوال، وثاني هذه الحقائق أن المداخلة الدولية رئاسياً تبدو محصورة بفرنسا في ظل حذر أميركي من التصادم مع السعودية من جهة، ومن جهة مقابلة اهتمام فرنسي استثنائي لأسباب كثيرة بتحقيق إنجاز في السياسة الخارجية بحجم ما تتيحه الفرصة الرئاسية في لبنان، وضمان مصالح اقتصادية ليس أقلها قطاع النفط والغاز لشركة توتال، والمقاربة الفرنسية تبدو على خط تعزيز فرص انتخاب فرنجية بوضوح، كما لا يغيب عن التيار.
تبنّى التيار ورئيسه منذ إعلان رفضه لفرنجية وابتعاده عن الشراكة مع حزب الله في الملف الرئاسي، بالتزامن مع انسحاب الحزب التقدمي الاشتراكي من خيار ترشيح النائب ميشال معوض، إطلاق مسعى إنتاج معادلة لا فرنجية ولا معوض، نعم لمرشح ثالث، وفيما تبنى الاشتراكي ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون خياراً بديلاً أولاً رفضه التيار، لم يكن خافياً على التيار أن الاشتراكي كان يسعى مع القوات اللبنانية لصياغة مشتركة تحاكي ما قيل إنه تبنّ سعودي يدعم ترشيح قائد الجيش، وقد تكفل رئيس المجلس النيابي نبيه بري بتعطيل هذه الفرضية من موقع تبنيه لترشيح فرنجية وتحالفه مع حزب الله، مزيلاً عن كاهل التيار عبئاً ثقيلاً، عبر رفض ترشيح قائد الجيش دون تعديل الدستور الذي يبدو مستحيلاً. ومع نهاية هذه الفرضية انتقل الاشتراكي وسائر النواب المستقلين من حلفاء السعودية الى مرحلة جديدة عنوانها انتظار الموقف السعودي، الذي يبدو محسوماً أنه لن يصل الى دعم ترشيح فرنجية، على الأقل علناً، لكنه سيفتح الطريق لفرصة انتخابه عبر القول إن الأولوية هي لانتخاب الرئيس، وإن التوافق اللبناني هو الذي ينتج الرئيس الجديد، ولذلك لم ينجح مسعى البحث عن توافق كتلة وازنة على مرشح ثالث، يؤيده كل من التيار والاشتراكي والمستقلين، وكل يوم يبدو أن مثل هذه الفرضية تزداد ضعفاً وتراجعاً.
الخيارات تبدو بين فرضية اكتمال عقد الـ 65 صوتاً لصالح فرنجية وتوافر نصاب كاف لانتخابه، أو حدوث استعصاء في الغالبية اللازمة أو في النصاب المطلوب، فيستمر الفراغ إلى أجل طويل، وما يعلمه التيار ورئيسه هو أن التيار بعد التباعد الرئاسي مع حزب الله، لا يملك موازين القوى اللازمة التي تتيح له تحقيق ما لم يستطع تحقيقه في عهد الرئيس ميشال عون، أي تسمية الرئيس وضمان التوافق السياسيّ على خطة عمل يتبناها ائتلاف نيابي كافٍ لتسمية رئيس حكومة وتمثيل أغلبية حكومية ونيابية، لم تتحقق في عهد الرئيس عون، ويفترض أن التيار يدرك أن مفهوم الرئيس القوي المستند الى شخصية الرئيس عون وتاريخيته وحجم تمثيل التيار الأكبر نيابياً والتحالف مع حزب الله يومها، الأقوى من اليوم، بما له وما عليه، لم تكن عناصر كافية لضمان نجاح العهد بسبب غياب هذا الائتلاف الذي يشكل غالبية نيابية وحكومية، والملتزم بسلة متكاملة، كانت ما طلبه الرئيس بري للسير بانتخاب العماد ميشال عون ورفضها التيار يومها بداعي أن الرئيس هو السلة بذاته مرة، وأن طلب السلة غير دستوري مرة أخرى، وهو يعلم اليوم أن السلة، التي يسمّيها التيار بالمشروع هي المطلوب، لكن من الائتلاف النيابي الداعم للمرشح الرئاسي، وليس من المرشح الرئاسي.
جرّب التيار الرئيس بدون الائتلاف النيابي، وليس بمقدوره تأمين الرئيس والائتلاف معاً، فماذا سيختار الآن، الائتلاف النيابي الذي يلتزم السلة، أو ما يسمّيه رئيس التيار بالخيار الثاني القائم على أولوية التفاهم على المشروع بمعزل عن اسم الرئيس، الذي يشكل أولوية عند حزب الله من منطلق مفهوم الأمن القومي، فيقع تجديد التفاهم بينهما على هذه القاعدة، أم يختار التيار القفز الى خياره الثالث بترشيح رئيسه لتسجيل موقف يعرف أنه لن يغيّر المعادلة، أم يختار ترجيح كفة البقاء في الفراغ؟
السياسة ذكاء التوقيت، وامتلاك حكمة معرفة كيفية الاختيار بين خسارتين وربحين، وشجاعة الإقدام على الاختيار، ربح الرئيس والمشروع معاً ربحان غير متاحين، وخسارة الرئيس والمشروع خسارتان متاحتان، وربح الرئيس بلا المشروع افتراضي وغير متاح، وعندما تحقق بأفضل وجوهه مع الرئيس عون بدا أنه غير كافٍ، لكن ربح المشروع اليوم وقبول خسارة الرئيس فرضيّة واردة وأمر متاح، والسؤال دائماً أين يكمن ربح البلد ومدى أهمية أن يكون للتيار بصمة في صناعة هذا الربح. وفي السياسة عندما تجعلك الظروف والموازين موضع طلب، عليك أن تعرف أي العروض تطلب؟