خضر عدنان من بيرزيت إلى بيروت
سعادة مصطفى أرشيد*
يذكر كثير منّا الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق ليونيل جوسبان في شباط عام 2000 إلى فلسطين، حيث حلّ أولاً ضيفاً على الحكومة (الإسرائيلية)، وهاجم من منابرها المقاومة اللبنانية واصفاً إياها بالإرهاب وما إلى ذلك من عبارات منافقة، ثم حلّ في الجزء الثاني من زيارته على السلطة الفلسطينية التي استقبلته بحفاوة ظاهرة، ومن رام الله قام يرافقه وزير التخطيط والتعاون الدولي (الخارجية) الدكتور نبيل شعث بزيارة إلى جامعة بيرزيت التي ساهمت حكومته بتقديم دعم لها، ومن هناك حاول في خطابه تكرار تطاوله على المقاومة اللبنانية واصفاً إياها بالإرهاب وقتل الأطفال، فتصدّى له بداية شاب في مقتبل العمر (21 عاماً) يدرس الرياضيات صارخاً: «شعب واحد لا يموت… من بيرزيت إلى بيروت».
كانت هذه الجملة وكأنها كلمة السرّ فانقضّت جموع الطلاب على رئيس الوزراء ممطرينه بالحجارة والزجاجات الفارغة وربما الأحذية، ففرّ من المكان بشكل مهين، حيث طاردت جموع الطلبة سيارته وحطمتها وأصيب إصابة طفيفة في رأسه، وفق ما ذكر مرافقوه (وانْ تمّ نفي ذلك لاحقاً).
كان اسم ذلك الطالب المبادر خضر عدنان. تخرّج خضر عدنان من الجامعة وسجل في برنامج للدراسات العليا، لكنه لم يكن يخرج من سجن حتى يعود إليه من جديد، لم يجد وظيفة يعمل بها فعمل في مخبز عاملاً ثم افتتح لنفسه مخبزاً (فرناً) متواضع الحجم والإمكانيات ليعتاش وأسرته من دخله ومن عرق جبينه وكدّ يمينه، فعُرف منذ ذلك الوقت بالشيخ خضر عدنان خارج أوقات عمله، وكلما تتطلّب الظرف الوطني والقومي (الإسلامي كما كان يفضِّل) كان يغادر مخبزه الى ميدان الكفاح حيث عُرف بملكته الخطابيّة وقدرته على الحشد الشعبيّ والجماهيري في التصدّي لسياسات الاحتلال من استيطان ومصادرة أرض وتهويد للقدس، أو في جنازة شهيد أو في الاعتراض على سياسات السجون ودعماً للأسرى، ولكن لم يعرف عن شيخنا ولم يتّهم بأيّ عمل عسكري مباشر او نشاط سريّ وإنما كان مقاوماً بكتاب مفتوح يقرأه العالم من صديق وعدو.
هذه المرة كان هو الأسير ثم الشهيد، فور اعتقاله أعلن إضرابه على الطعام حتى الموت أو حتى الإفراج عنه فكان الموت، دخل معركة الإرادات مع السجان بأمعائه الخاوية بلا مساومة فانتصر وإنْ كانت حياته هي الثمن، مؤكداً انّ لحظات الحياة بعز تفوق في متعتها وسموّها الحياة الذليلة المهزومة.
طافت السيدة الفاضلة زوجته ومعها أبناؤهما التسعة البلاد طولاً وعرضاً، واعتصمت وحيدةً في يوم عيد الفطر الماضي في الميدان الرئيسي في رام الله الذي تحيطه سبعة أسود حجرية شاركتها اعتصامها صامتة، فيما لم ينضمّ إليها في تلك المدينة الشقراء إلا أعداد قليلة من ذوي الضمائر الحيّة لم أعرف منهم من مكاني البعيد عبر الصورة إلا صاحب الشعر الأشيب الشاعر المثقف زكريا محمد.
الشيخ الشهيد خضر عدنان مثّل مدرسة في العمل العام، أثرت في المجتمع وفي أسرته (قد نختلف معها بالايديولوجيا) ولكن نحترمها ونقدّر نضالاتها وتضحياتها، عرف الشيخ خضر ما ينتظره فأبلغ وصيّته بأن لا يشرّح الاحتلال جثته لمعرفه أسباب الوفاة، حيث أنها معروفة مسبقاً، فيما قالت السيدة رندة موسى زوجته قبيل استشهاده بأيام قليلة: لا أريد ان تأتوا بعد استشهاد الشيخ للهتاف له والقَسَم بحياته، معبّرة عن خذلان من كثيرين تقع عليهم مسؤوليّة الدفاع عن الشيخ والوقوف بجانبه في محنته التي واجهها دون أيّ دعم من جهات رسمية وغير رسمية على ضفتي الانقسام الفلسطيني. إثر انتشار خبر استشهاده، عقدت زوجته مؤتمراً صحافياً في بلدة عرابة ظهرت فيه شجاعة قوية رابطة الجأش ممثلة نموذجاً جديداً من نماذج المرأة الفلسطينية الناشطة في العمل السياسي والوطني، لم تمرّ قبل مؤتمرها الصحافي بصالون تجميل، ولم تنتق ملابسها بعناية أنيقة، ولكنها كانت بالغة الحرص في مفردات خطابها، كشفت فيه بأدب وحزم عورات الحالة الفلسطينية على طول الوطن وعرضه، مؤكدة أنّ مؤسّسة الشيخ خضر عدنان الاجتماعية الأسرية باقية على نهجة وطريقه، حتى لو تخلّى عن ذلك النهج والطريق من تخلّى.
رحل خضر عدنان عن دنيانا، ولكن الأيام المقبلة ستثبت أنّ رحيله الجسديّ لا يعني نهاية القصة، فستشهد ساحات نضاله قائدة جديدة تدرّبت على يديه وتسير على نهجه وطريقه…
*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.