الواقع الأميركي وانهيار الأمن الأوروبي
} د. محمد سعد
في عام 1989، عقد الرئيس السوفياتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف والرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) قمة مالطا، التي مهّدت إلى إعلان نهاية الحرب الباردة، حينها اعتبرت القمة بمثابة السلام التفاوضي الذي وعد باستبدال سياسة المواجهة بين الكتلتين بسياسة سلمية جديدة.
في أعقاب الأحداث التي اندلعت في أوروبا في عامي 1989 و1990 وكان من تداعياتها سقوط جدار برلين وتفكك الكتلة الاشتراكية، اعترف ميثاق باريس بتوحيد ألمانيا في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1990 ونهاية انقسام أوروبا إلى كتلتين، الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، حيث ارتكز الميثاق الذي أبرم في إطار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على المبادئ المعلنة في وثيقة هلسنكي الختامية في عام 1975 كاحترام الحدود، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام حقوق الإنسان، كالحقوق الأساسية وحرية تنقل الأشخاص والسلع والأفكار.
توسع حلف الأطلسي وعودة المواجهة مع روسيا
لكن الولايات المتحدة استغلت تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 وضعف روسيا التي قد دخلت في مرحلة مخاض داخلي، فانقلبت على تعهّداتها باعتماد سياسة سلمية في القارة الأوروبية خاصة، وفي العالم عامة، حيث دفعت بهيكل أمني وسياسي قائم على أحادية القطبية والهيمنة عالمياً من ناحية، من ناحية ثانية العمل على استمرارية حلف الأطلسي من خلال ما يُسمّى «الأطلسية الجديدة» والتي ترتكز على نقطتين محوريتين هما:
1 ـ الإبقاء على حلف الأطلسي كنقطة ارتكاز محورية في الهندسة الأمنية الأوروبية الجديدة، وكقلب للبنية المؤسساتية للنظام الجديد.
2 ـ إقناع الأوروبيين بأنّ حلف الأطلسي لم يصبح على الإطلاق شخصية تبحث عن دور، فغايته محدّدة وواضحة، وهي الحفاظ على أمن أعضائه، لكن عليه أن يفعل ذلك في ظروف جديدة تفرض تكيّفاً ملائماً.
وقد حذر جاك ماتلوك سفير الولايات المتحدة الأسبق لدى الاتحاد السوفياتي الذي ساهم في التفاوض على إنهاء الحرب الباردة، من أنّ «صناعة الأساطير» والمراجعة التاريخية بدأت في واشنطن بمجرد انهيار الاتحاد السوفياتي، حينها خرج الرئيس بوش الأب مزهواً بـ «الانتصار» على حدّ وصفه قائلاً: «بفضل الله، انتصرت أميركا في الحرب الباردة… لم تنته الحرب الباردة، بل انتصرنا… نحن الولايات المتحدة الأميركية، زعيم الغرب الذي أصبح زعيم العالم». وبهذا أضفت السردية الجديدة للنصر الشرعية على أوروبا الجديدة القائمة على الهيمنة، حيث أصبحت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا منظمة هامشية.
وبعد تهميش منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أطلقت الولايات المتحدة استراتيجية توسع حلف الأطلسي، التي تعني عملياً التخلي عن «الأمن غير القابل للتجزئة»، حيث بدأ الحلف بتوسيع أمنه على حساب الأمن الروسي، كما تمّ استبدال «المساواة في السيادة» بعدم المساواة في السيادة حيث ادّعى الحلف الأطلسي امتياز التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وإسقاط الحكومات والغزو تحت ستار النهوض بالقيم الليبرالية. وبهذا تكون الولايات المتحدة قد أطاحت بمبدأ منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المتمثل في «عدم وجود خطوط فاصلة» لصالح التحرك التدريجي للخطوط الفاصلة في أوروبا نحو الحدود الروسية.
انهيار الأمن الأوروبي
بدأ تآكل أوروبا «الموحدة» بعد أقلّ من أسبوعين من توسع حلف الأطلسي الأول، حيث ادّعى الحلف سلطة غزو يوغوسلافيا في عام 1999 دون تفويض من الأمم المتحدة، كانت هذه مقاربة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي تقدّم ولاءها للأطلسي على ولائها الأوروبي. فالغزو يُعتبر بكلّ المقاييس والمعايير انتهاكاً لا لبس فيه للقانون الدولي، ولكلّ قواعد الشرعية الدولية ولنظام الأمن الجماعي، ومع ذلك قالت الإدارة الأميركية في حينه إنّ الغزو الأطلسي «شرعي» لأنه يخدم القيم الديمقراطية الليبرالية. كان الهدف من تهميش الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا هو تقديم حلف الأطلسي باعتباره «السلطة الشرعية» في أوروبا.
وعليه فإنّ نتيجة استبدال الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا بهيمنة حلف الأطلسي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة الأميركية هي حرباً باردة جديدة. فالصراع الرئيسي اليوم بين حلف الأطلسي وروسيا يدور حول مكان رسم خطوط التقسيم الجديدة، حيث تصبح الدول المنقسمة في أوكرانيا وجورجيا وبيلاروسيا ومولدوفا ساحة المعركة. فالحرب الحالية كانت متوقعة ويمكن تجنّبها، وهذا ما حذر منه الدبلوماسي الأميركي جورج كينان في عام 1998 من أنّ توسع حلف الأطلسي سيكون بداية حرب باردة جديدة حيث قال: «بالطبع سيكون هناك ردّ فعل سيّئ» من روسيا، وبعد ذلك سيقول الذين نادوا بتوسع الناتو، إننا أخبرناكم دائماً هكذا حال الروس».
الصراع بين الواقع الأميركي والقانون الدولي
إنّ قراءة المشهد الدولي منذ نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي تظهر انّ الصراع يتمحور ما بين الواقع والقانون الدولي، وبالتالي ما يحصل اليوم هو أنّ الواقع يسير القانون الدولي، الواقع الذي تمثله الأحادية والهيمنة الأميركية، وبإسم هذا الواقع تمّت مصادرة كلّ المفاهيم القانونية، مثال على ذلك أنهت الولايات المتحدة حقّ الدفاع النفس وجوهره المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وأحلّت مكانه الحروب الوقائية والاستباقية وذلك بحكم القوة التي تستعملها، وحربها الهلامية المفتوحة على الإرهاب، وتصنيف الدول ما بين مارقة وشريرة، والفوضى الخلاقة والثورات الملوّنة، مثال آخر لم يعد هناك شيء اسمه مسؤولية الحماية للإنسان في الدول غير الراغبة وغير القادرة على حماية الإنسان، الذي حصل أنّ الولايات المتحدة استعملته لقلب الأنظمة مثلما حصل في ليبيا على سبيل المثال لا الحصر، مثال آخر نظام الأمن الجماعي الذي يُعتبر جوهر ميثاق الأمم المتحدة، والذي من المفترض أن تتشارك الدول في حفظه وصيانته تمّ إقصاؤه لصالح مفهوم جديد للأمن ابتدعته الولايات المتحدة الأميركية من خلال الأحادية والهيمنة يقوم على تعريفه انفرادياً، وباعتبارها استثناء يمكّنها من التدخل في طول الأرض وعرضها، فيما لا يحق لأيّ دولة في العالم أن تتحرك لتدافع عن أمنها وسلامتها واستقلالها وحدودها واستقرارها، مثال آخر أيضاً موضوع العقوبات التي أُخليت نهائياً من مفهومها الإنساني والحضاري، وباعتبارها واحدة من صلاحيات مجلس الأمن الدولي وفق المادتين 41 و 42 من ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي كلّ عقوبة خارج نطاق هذه الصلاحية تعتبر غير مشروعة، الولايات المتحدة انتزعت هذه الصلاحية من مجلس الأمن واستبدلتها بعقوباتها الأحادية التي قضت على الملايين من البشر حول العالم أغلبهم من الأطفال كما حصل في العراق على سبيل المثال لا الحصر.
وعليه يمكن القول انّ جهود الولايات المتحدة تنصبّ على استبدال القانون الدولي بـما تسمّيه «النظام الدولي القائم على القواعد»، ولكن أية قواعد؟ هي القواعد التي تضعها واشنطن وعلى العالم اتباعها، بمعنى آخر ما يلائم الولايات المتحدة يلائم العالم، فالعالم اليوم بالمفهوم الأميركي منقسم بين الديمقراطيات الليبرالية والدول الاستبدادية، ولا ينبغي تقييد الأولى بنفس القواعد مثل الثانية التي تعمل على الإطاحة بالنظام الدولي الذي أرست دعائمه وأسسه وقواعده واشنطن ليعمل لمصلحتها، وبالتالي فإنّ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة وحتى اليوم، والذي يسعى إلى الهيمنة يتقدم على الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا المهمّشتين كمؤسّسات وأطر جامعة تحكمها قواعد دولية مشتركة تمنع الخطوط الفاصلة كتلك التي سادت في الحرب الباردة وتحقق الأمن والسلم الدوليين، فالنتيجة الحتمية لكلّ ذلك تتمظهر في المواجهة الكبرى في أوكرانيا، والتي قد تتصاعد إلى حرب نووية بين حلف الأطلسي وروسيا في ظلّ غياب أية بوادر لمقاربة دبلوماسية تنهي الصراع وتعيد الاعتبار للقانون الدولي ولنظام الأمن الجماعي.