محور المقاومة يرسم قواعد الاشتباك في ذكرى اغتصاب فلسطين
ناصر قنديل
– بنى بنيامين نتنياهو قرار الحرب على غزة على ثلاث ركائز، الأولى سياسية وهي توفير فرص تماسك حكومته التي هدّد وحدتها بالتفكك، تراجع نتنياهو أمام المقاومة ومحورها في معركتي الأقصى والأسرى، وتوفير فرص محاصرة المعارضة المتصاعدة الى حد تهديد شعبيته كمرشح لرئاسة الحكومة، والثانية استراتيجية نابعة من التقاط التحوّل في الموقف الأميركي من التحذير من أي مواجهة خشية الانزلاق الى حرب تخرج عن السيطرة لا تحتمل واشنطن اندلاع نيرانها وتسببها بتوقف سلاسل توريد الطاقة إلى أوروبا وتعطيل ممرات التجارة الأوروبية نحو العالم، إلى التسليم بأن التراجع المشترك في الهيبة الإسرائيلية والنفوذ الاميركي في المنطقة، قد بلغ حداً ينعكس على المصالح الاستراتيجية لكليهما، خصوصاً في المسألة السورية، حيث يستعد محور المقاومة لإغلاق فرضية المعركة بين حروب التي تمثلها الغارات الإسرائيلية عليها، وحيث حلفاء أميركا يديرون الظهر لكل التحذيرات الأميركية، بعدما صار واضحاً أن الانفتاح السعودي والتركي يرسمان طريق تحوّل سورية الى قوة صاعدة في المنطقة، بعكس السعي الأميركي الإسرائيلي، وحيث الاحتلال الأميركي سوف يدفع الثمن كما الغارات الإسرائيلية، والمشهد الاستراتيجي في المنطقة سوف يتغيّر جذرياً مع سورية الجديدة؛ أما الركيزة الثالثة فهي تكتيكية، تتصل بعناصر العمل الميداني، حيث بنى العملية على المفاجأة بتوجيه ضربة استخبارية مدروسة تستهدف قادة الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي من جهة، واستثمار تجربة معركة آب 2022 التي كان عنوانها استفراد حركة الجهاد، والرهان على هذين العاملين لشل قدرة الرد عند الجهاد، وعدم تدخل حماس، ما سيترجم بعدم منح محور المقاومة فرصة الدخول على الخط.
– عملياً كانت ثمّة تحولات أخرى تشهدها المنطقة بين معركة آب 2022 ومعركة أيار 2023، وأبرزها أن محور المقاومة قد تحوّل إلى محور حقيقي، وليس مجرد إطار تنسيقيّ، وأن مرحلة ما بعد التلاقي بين سورية وحركة حماس تركت بصماتها على كل العلاقات البينيّة بين أطراف محور المقاومة، وخصوصاً بين حماس والجهاد وحزب الله، ما أتاح الاستعداد الاستباقي لكيفية تحويل أي خطة لاستفراد الجهاد من تحدٍّ الى فرصة، فتوضع ايجابيات الاستفراد ضمن معادلة يوضع فيها توسيع الحرب نحو استهداف غزة ومنشآتها وحماس بالتالي، مقابل المنشآت الحيوية للكيان من منصات النفط والغاز إلى محطات الكهرباء، واحتواء سلبياتها وفق معادلة غطاء غرفة العمليات المشتركة لكل المواجهات، والتكامل اللوجستي بين كل أطراف المحور، فحيث تحتاج الجهاد تعينها حماس وحيث تحتاج حماس يعينها حزب الله، وهكذا. وعندما يستدعي الأمر دخول حماس على الخط تدخل، وعندما يستدعي الأمر دخول حزب الله يدخل، وبالتأسيس على هذا المتغير أدخلت تقنيات وتكتيكات جديدة على خطط القتال تمثلت بإدارة التعامل مع الوقت، وكيفية إدارة النيران وتعطيل القبة الحديدية، وأضيف الى ذلك التوافق على رسم السقوف السياسية وشروط التفاوض لأي معركة فور انطلاقها، وعدم ترك البحث بالشروط الى نهاية المعركة وبدء مسار المفاوضات ومخاطر الانقسام التي يرتبها، وجاء الإنجاز الكبير لحركة الجهاد في احتواء تداعيات الاغتيالات والحفاظ على مرونة القدرة التكتيكية على القتال والمناورة الصاروخية، وكانت الحصيلة إثبات المقاومة قدرة استثنائية غير متوقعة، رسمت قواعد اشتباك وضعت الكيان بين خيارات صعبة، وجد نفسه مجبراً على التعاطي معها وفق معادلة رد الأسوأ بالسيئ، ووجدت واشنطن أن المضي قدماً سوف يغير قواعد الاشتباك ويعقد الخيارات، فانقلبت مداخلتها مع مصر من السعي للضغط على قوى المقاومة في الوساطة لوقف النار، إلى السعي لتسوية ترتضيها قوى المقاومة، وتحرك السقف من تهدئة مقابل التهدئة، الى وقف للنار باتفاق يتضمن النص على عدم استهداف المدنيين ووقف هدم المنازل، بصورة تتيح لنتنياهو القول إن المقصود يسري على الطرفين، الكيان والمقاومة، حتى اضطر للتسليم بإضافة معادلة وقف قتل الأفراد، وهي جملة لا تفسير لها بوجود وقف استهداف المدنيين إلا وقف الاغتيالات مهما حاول نتنياهو تفسيرها وتبريرها، ليس لأن تعهده وقف الاغتيالات له قيمة، بل لأن نص وقف النار يحدد مَن أملى الشروط ومَن رضخ، ويحدد بالتالي هوية المنتصر.
– ما شهدناه هو حرب تموز 2006 مكرّرة، حيث قرّر الأميركي بشخص جاك سوليفان حرباً إسرائيلية لاستعادة الشرق الأوسط القديم رداً على تفلت حلفائه واندفاعهم نحو دول وقوى محور المقاومة واختار سحق الجهاد الإسلامي هدفاً لتثبيت معادلته الجديدة، كما قرر الأميركي بشخص غونداليزا رايس في 2006 حرباً إسرائيلية لبناء شرق أوسط جديد لا وجود لقوى المقاومة فيه واختار سحق حزب الله هدفاً لتثبيت المعادلة المنشودة. وفي المرتين حسابات إسرائيلية باستعادة قوة الردع واعتبارات داخلية كثيرة، وفي الحربين انتصرت المقاومة بإفشال حسابات الحرب ونجحت في تحويل التحدّي الى فرصة وكما سقط النص الأول لوقف النار عام 2006 المقترح أميركياً وإسرائيلياً وفرض النص الذي يلبي طلبات المقاومة حدث في 2023 وقيمة النص «إن من يكتب نص وقف النار هو المنتصر». وكما خرج حزب الله وقائده السيد حسن نصرالله من حرب 2006 بصفته عملاق الشرق الأوسط، تخرج حركة الجهاد الإسلامي وقائدها زياد نخالة ومن خلفهما محور المقاومة كصانع السياسة والحرب الجديد في الشرق الأوسط لاعباً إقليمياً لا يمكن تجاهل حضوره وقوته، وما يصنع الدور والمكانة هو حجم الثبات والإصرار والقدرة على المضي قدماً حتى الإنجاز رغم عظيم التضحيات.
– إنها أولى حروب محور المقاومة كمحور، وإنها إحياء المقاومة ذكرى اغتصاب فلسطين، ورسم قواعد الاشتباك الجديدة التي تتراكم مرة بعد مرة لصالح قوى المقاومة، وخير مشهد يختزل الصورة الراهنة، هو ما شهدته جنين من تظاهرة للمقاومين بأسلحتهم، في ساحاتها، احتفالاً بنصر غزة والمقاومة ومحورها، بينما يقف جيش الاحتلال على بعد أمتار عاجزاً مصاباً بالإحباط.