75 عاما من المنازلة الفلسطينية الإسرائيلية: العودة إلى البدايات
يبلغ عمر كيان الاحتلال الخمسة والسبعين عاماً، حقق خلالها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وتقنياً واستراتيجياً، ما كان يعتقد أنها أسباب كافية ليحتفل بهذه المناسبة بالفوز بالأهداف التي رسمها منذ البداية، بالتحوًل الى دولة يعترف الجوار بشرعيتها ويقيم معها علاقات طبيعية. وقد أثبتت أنها الدولة القوية التي لا تقهر، وأنها النموذج الحديث للدولة الديمقراطية الذي يُحتذى، وأنها محور اقتصاديات المنطقة وعقدة تواصل أطرافها. وها هو يقارب الخامسة والسبعين بعين القلق من عدم بلوغ الثمانين، فما الذي جرى؟
لم يكن ينقص كيان الاحتلال أسباباً للقوة، فهو عسكرياً يملك جيشاً لديه ترسانة نووية وحيدة في المنطقة، وقدرة تدمير ونار لا يضاهيها جيش آخر، ومن خلفه الجيوش الأميركية التي تتنقل عبر العالم من حرب إلى حرب أخرى، ويملك شبكة مصارف وشركات عالية التقنيات منتشرة في العالم مستعدّة وجعله محور حركتها وقبلتها، سواء كمرفق عالمي لبيع النفط، أو كبورصة لأسهم شركات التقنيات، أو كعنوان أول لوكلاء الشركات الكبرى في المنطقة، ويملك استراتيجيا أحادية السيطرة الأميركية على العالم بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي، وجهوداً لا تهدأ للراعي الأميركي لفرض التطبيع مع الكيان في المنطقة وقبوله كائناً طبيعياً فيها، ورغم كل ذلك هو يخشى أن لا تطلع عليه شمس الثمانين، فلماذا؟
خلال خمس وسبعين سنة قاتل الفلسطيني وقاوم، ومرّ بعثرات وإخفاقات، وتناوبت على قيادته قيادات تفاوتت بشدة ايمانها وصدق عزمها لتحرير أرضه، أو في ثباتها على مشروع المقاومة، لكن بقيت في فلسطين روح وبقي نبض، يرفضان التسليم بالأمر الواقع. وفي كل مرة كان يظن العالم أن فلسطين قد ماتت، كان الفلسطينيون يخرجون على العالم بإعجاز يقول إن فلسطين لا تزال على قيد الحياة، وكانت القيمة الأهم لهذه المسيرة هي بإسقاط الرهان على الجيل الثالث والجيل الرابع، ليكونا جيلي التطبيع، فإذا بهما أشد تمسكاً بالتحرير والمقاومة.
منذ انتفاضة الحجارة منتصف الثمانينيات وصولاً لانتفاضة الأقصى عام 2000، وتتويجاً بتحرير غزة في 2005، وما تلاها من حروب خاضتها غزة كسرت قدرة الكيان على إثبات قوة ردعه، وتتويجاً بمعركة سيف القدس، ولدت معادلة جديدة، قوامها أن الفلسطينيين يستردون زمام المبادرة في هذه المواجهة التاريخية مع الغزاة، وأنهم يكتبون التاريخ مجدداً، وكان كافياً إثبات القدرة على المقاومة، وإلحاق الهزيمة بالاحتلال، لو في موضع ظرفي زماناً ومكاناً، لتعود فكرة زوال الكيان إلى الحضور، ويخرج الفلسطينيون من عباءة التسليم ببقاء الكيان على جزء من أرضهم، الى مشروع فلسطين حرة من البحر الى النهر، ويعيدون إنتاج البدايات، كيان غير شرعي يعيش مأزق الوجود.
في المنطقة أيضاً تبدّلت مناخات تفاعل شعوب ودول المنطقة مع القضية الفلسطينية، من أيام النهوض القومي مع جمال عبد الناصر، إلى أيام التطبيع السوداء، لكن الثابت كان أنه حتى عندما تذهب الحكومات إلى التطبيع فإن الشعوب لا تجاريها، حتى لو لم تقاوم مسار التطبيع، ومثال مصر بعد كامب ديفيد يكفي للحديث عن هذا المعنى، لكن هذا المخاض الذي عرفته المنطقة سجّل مع انتصار الثورة الاسلامية في إيران تحوّلاً هاماً تمثل بوجود دولة كبرى تحل مكان مصر التي أخرجتها اتفاقيات كامب ديفيد من حلبة الصراع مع الكيان، ترفع شعار اليوم إيران وغدا فلسطين وتضع ثقلها لدعم حركات المقاومة، فيما بقيت سورية ولو وحيدة تتمسك بفكرة الممانعة بوجه مشاريع السلام، ودعم المقاومة بوجه الاحتلال، حتى جاء انتصار المقاومة في لبنان وانتقال الانتفاضة في فلسطين الى مرحلة المقاومة لينشأ مربع قوة شكل لاحقاً نواة محور المقاومة. واليوم مع محور المقاومة واتساع أجنحته نحو العراق واليمن، كما قالت معركة غزة الأخيرة، يستعيد الفلسطينيون القدرة على فرض المعادلات.
النقاش في كيان الاحتلال وفي فلسطين واحد، هل يبقى هذا الكيان حتى يُبصر شمس الثمانين أم يزول قبل ذلك؟
التعليق السياسي