تركيا والتجاذب بين الخيارات والهويات في الرئاسة
ناصر قنديل
– قدّم مشهد الانتخابات الرئاسية التركية صورة شديدة التركيب والتعقيد بين عناصر تتشكّل منها كل مشاكل وأزمات المنطقة والعالم، وتدور حول أسئلة كبرى وتفصيلية، لتقول إن هناك توازناً هشاً بين معسكرين متداخلين، لا يمكن للمفاضلة بينهما أن تتم إلا بصعوبة عالية، بما يُعبّر عن غياب الخيارات الواضحة في تعبيرها عن مقاربة مشاكل الغد بلغة متجانسة؛ حيث يمثّل الرئيس أردوغان نموذج الإسلام السياسي القريب من الغرب ومفهوم الدولة المدنية، مقابل منافسه كمال كليجدار كممثل للعلمانية الأصولية المشبعة بروح الغرب والمعادية للدين؛ ويمثل أردوغان من موقعه في زعامة الأخوان المسلمين ضمن معسكر الإسلام السياسي نموذج العنف وشهوة البحث عن دور على حساب استقلال دول المنطقة، وصولاً للاستعداد لاستضافة عشرات آلاف الإرهابيين التكفيريين، وبالمقابل تصدير بعضهم الى حيث يلزم، تحت عباءة مشروع العثمانية الجديدة وحلم السلطنة الكامن والجاهز للظهور دائماً، ومقابله منافس يريد استعادة نموذج أتاتورك لدور إقليمي ينضبط بالأجندة الغربية، لكن دون خوض حروب وطموحات التوسع؛ ويمثل أردوغان مشروعاً استقلالياً يقف على مسافة المصالح المتحركة بين الشرق والغرب، من حرب أوكرانيا إلى حرب سورية، والبحث عن شراكات سياسية واقتصادية تأخذ بالاعتبار متغيرات العالم ومخاطر البقاء في المركب الغربي بقيادة أميركية متوحشة، يأنس اليها منافسه ويأخذ عليه التقرّب من روسيا، بينما في الاقتصاد قدّم أردوغان نموذج اقتصاد قوميّ عماد النهوض بالصناعة وإنتاج دور يستند الى عناصر القوة في الجغرافيا الاقتصادية، ويقابله منافس يتبنى الليبرالية الكاملة، حيث لا دور للدولة في الاقتصاد؛ وفيما يقدم أردوغان مثالاً قاسياً في التعامل مع الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية والاعلامية، يتباهى خصمه بالذهاب الى أبعد الحدود دفاعاً عنها وصولاً لتشريع المثلية.
– يقول المشهد الانتخابي في الجولة الأولى إن الأتراك حائرون. وهذا معنى توزعهم بنسب متساوية تقريباً بين المتنافسين، في لحظة يطلق عليها علماء الاجتماع والفلاسفة، لحظة انعدام اليقين. ولعل تصويت ستة وخمسين مليون تركي من أصل ستين مليوناً يحق لهم الانتخاب، يدل على حجم الانخراط الذي تعيشه المجتمعات في محاولة البحث عن اليقين، وانقسام هؤلاء الى نصفين شبه متساويين، بين ثمانية وعشرين مليوناً في ضفة وخمسة وعشرين مليوناً في ضفة مقابلة، ومقابل الإثنين ثلاثة ملايين صوّتوا للمرشح القومي المتطرف، تعبير عن حال عدم اليقين، وعدم وضوح الخيارات بصورة حاسمة؛ وبالتدقيق في اتجاهات التصويت، سوف يتبين أن المدن الكبرى كانت صاحبة الصوت الحاسم لصالح خيارات كليجدار، مقابل تصويت الأرياف بنسب أعلى لصالح أردوغان. وهذا يعني أن الأرياف صوتت بدافع الميل لصالح الهوية القومية الإسلامية المتصالحة مع المنطقة، خصوصاً في ضوء مرارة التجربة مع محاولات الانضمام الى الاتحاد الأوروبي، والإطار العنصري الذي قابلت به أوروبا طلب تركيا ذات الغالبية الإسلامية للانضمام إليها، بخلفية الخشية على التكوين الديمغرافي الأوروبي والحرص على ما وصفه الخبراء بالنقاء المسيحي، كما صوّتت لصالح دور الدولة الاقتصادي في السكن والتعليم والصحة ودعم الزراعة والسياحة والصناعة، بينما تأثرت المدن بالتطلع نحو الاندماج بالغرب خصوصاً مع الضائقة الاقتصادية وتراجع القيمة الشرائية لليرة التركية، وتغليب الدولة التي بلا هوية على نموذج الهوية التي قدّمها أردوغان، والتصويت للحريات بأبعادها الإعلامية والشخصية والاجتماعية بنسختها الليبرالية، بما فيها المثلية، والرغبة بالخروج من التوترات والنزاعات والحروب.
– تكشف الانتخابات الدور المؤثر لشريحة وازنة وقضية بارزة. الشريحة هي الشباب الذين يتمركزون في المدن، ويبدو أن غالبية كبيرة منهم لم تصوّت لصالح أردوغان، ولو على خلفية طلب التغيير تحت شعار “عشرون عاماً تكفي”، أما القضية التي تعاني منها المدن وحضرت في خلفية التصويت بقوة فهي قضية اللاجئين السوريين، التي يتحمّل أردوغان مسؤولية تفاقمها، من موقعه ودوره في الحرب على سورية، مقابل التزام منافسه بإعادتهم خلال سنتين، ولو اقتضى الأمر ترحيلهم. والواضح أن ضغط قضية النزوح السوري على سكان المدن اقتصادياً واجتماعياً على خلفية الأزمة التي تعصف بالاقتصاد التركي وارتفاع نسب البطالة والتنافس على الأعمال بين العمال الأتراك والعمال السوريين، وتحميل البرجوازية السورية بين اللاجئين مسؤوليّة ارتفاع بدلات الإيجار والبيع في السوق العقاري، والسيطرة على بعض المهن، فيما يبدو أردوغان متردداً في اتخاذ القرار الذي يجعله أقرب لتقديم حل عملي لقضية النزوح، حيث يمكن التوصل مع الدولة السورية بدعم روسي إيراني خليجي، لروزنامة تتضمّن الانسحاب التركي من سورية وعودة النازحين وتفكيك الكانتونات التقسيمية والجماعات الإرهابية شمال شرق وشمال غرب سورية بالتوازي خلال سنتين.
– يمكن القول إن الدورة الثانية قد تمنح فرصاً أفضل لمنافس أردوغان، إلا إذا أشهر أردوغان ورقته الرابحة بشجاعة، وأعلن استعداده للالتزام بروزنامة متوازية لعودة النازحين والانسحاب من سورية، عبر قمة سورية تركية بمشاركة روسية وايرانية تعقد في الرياض أو أبو ظبي تعلن هذا الالتزام وتضع له جداوله الزمنية.