هكذا انتصرت المقاومة في معركة «ثأر الأحرار»؟
} العميد د. أمين محمد حطيط*
في ظلّ متغيّرات تمرّ بها المنطقة وما يحصل فيها من مصالحات إقليمية وعربية، خلافاً لما خُطّط له في ما أسمي «الربيع العربي» الرامي الى تقطيع جسد الأمة والإقليم بخطوط النار، متغيّرات تتشكل بدءاً بصلح بكين التاريخي الاستراتيجي الذي عقد برعاية صينية بين إيران والسعودية، تلته مصالحة عربية أفضت الى عودة سورية الى إشغال مقعدها في الجامعة العربية، بقيادة الرئيس بشار الأسد الذي تلقى الدعوة الرسميّة لحضور القمة العربية في جدة، في ظل هذه الظروف شعرت «إسرائيل» بانهيار الآمال التي عوّلت عليها طيلة الـ 12 سنة الماضية حيث حلمت بقيادة حلف إقليمي يقاتل إيران ويواجه محور المقاومة.
تحت وطأة هذا الشعور بالخيبة إقليمياً ودولياً، يُضاف إليها ما يعيشه نتنياهو من مآزق داخلية تهدّد حكومته وتنذر بصراع صهيوني ـ صهيوني، رأت القيادة الإسرائيلية في المستوى السياسي ممثلاً بالحكومة والمستوى الأمني ممثلاً بالشاباك، توجيه ضربة قاسية لحركة الجهاد الإسلامي في غزة، ضربة إنْ نجحت تحجب مفاعيل المتغيّرات أعلاه وتمنع تالياً محور المقاومة من استثمار انتصاراته الاستراتيجيّة.
اختارت «إسرائيل» حركة الجهاد هدفاً لعدوانها، لأنها ترى في هذه الحركة وارتباطها خصوصيّة مميّزة، فهي تعتبرها الفصيل الفلسطيني المقاوم الأخطر عليها الى جانب حركة حماس. وأنها على صلة وثيقة بإيران ومتفرّغة للمقاومة غير منشغلة بأيّ شأن من شؤون السلطة والمهام الإدارية والسياسية وأنها التنظيم الأصولي الذي يرفض أيّ تسوية للصراع تفضي الى التنازل عن أيّ جزء من فلسطين مهما صغر، ولذلك فإنّ استراتيجية «إسرائيل» خاصة في عهد التطبيع مع بعض العرب بمقتضى «اتفاقات ابراهام” تفضي الى وجوب اجتثاث التنظيمات التي هي من طبيعة حركة الجهاد الإسلامي من غزة أو تحجيمها وتهميشها، لانّ في هذا الأمر شلّاً لليد الإيرانية في منظومة المقاومة الفلسطينية.
لهذه الأسباب نفذت «إسرائيل» ضربة قاسية لحركة الجهاد في غزة أودت بحياة 3 من قيادييها، وأملت بأن تستنكف الحركات الأخرى عن الوقوف الى جانبها وتصوّرت انّ «قطع رأس الجهاد في غزة» من شأنه أن يشلّها فوراً ويمنعها من الردّ المؤثر، ما يكون من شأنه أن يرمم قدرة الردع الإسرائيلي المتآكلة، مع تمني بانفجار اشتباك فلسطيني داخلي يعرقل حركة الجهاد إذا اتجهت للتحرك الميداني الذي يستثير غضباً ورداً إسرائيلياً على المدنيين في غزة.
بيد انّ حسابات «إسرائيل» وتقييمها وتقديرها للموقف الفلسطيني، لم يكن في محله، اذ سرعان ما تبيّن لها الخطأ في التقدير والاستعلام، حيث انّ المقاومة في غزة أجهضت الأهداف الإسرائيلية بالخطوات والمواقف التالية:
1 ـ إنشاء فوري لغرفة عمليات مشتركة في غزة. انتظمت فيها كافة الفصائل الفلسطينية المقاومة بما فيها حماس والجهاد والجبهة الشعبية والآخرون ما عطل فكرة العزل والاستفراد وجعل الردّ المقاوم مسؤولية جماعية بصرف النظر عن الجهة التي تنفذه ميدانياً، الأمر الذي أجهض فكرة الاستفراد والعزل.
2 ـ الدخول عقب عملية الإجرام الإسرائيلي بقتل القادة الميدانيين الثلاثة من الجهاد، الدخول في مرحلة صمت استراتيجي لاستيعاب الضربة وتحضير الردّ الموجع، مرحلة كان وقعها مرهقاً للعدو في محيط غزة خاصة و»إسرائيل» عامة وأثبت أنّ المقاومة لن تردّ بشكل انفعالي قابل للاستيعاب ولن تريح «إسرائيل» وتهديها كأس الانتصار في عدوانها ودخل الصمت هذا سلاحاً جديداً في المواجهة أرّق «إسرائيل».
2 ـ إطلاق عملية «ثأر الاحرار» من قبل غرفة العمليات المشتركة في غزة، بشكل محكم التخطيط والتنفيذ ما أحدث المفاجآت الميدانية عملانياً واستراتيجياً في الردّ من حيث المكان والنمط والكيفية والمدى ونوعية الصواريخ المستعملة وقدرتها التدميرية، ردّ قامت حركة الجهاد بمعظم أعماله الميدانية ما أطاح بالخطة الإسرائيلية الرامية لشطب الجهاد من غزة. وهنا لا بدّ من التنويه بالأداء المميّز لهذه الغرفة قيادة وتخطيطاً وإدارة نيران وتنسيقها رغم صعوبة الظروف الموضوعية.
3 ـ نجاح حركة الجهاد بالتعامل مع استشهاد القادة الميدانيين فيها والسرعة في إملاء الشغور في مواقع القيادة ما أثبت طبيعة الحركة بأنها مقاومة ـ مؤسسة تجدّد ذاتها بذاتها قيادة ومقاتلين دون ان يتأثر مسار العمليات العسكرية بفقد القائد الميداني رغم أهميته، وهنا سيسجل للحركة قدرتها الفذة على ذلك إذ رغم خسارتها المؤلمة لـ ستة من قادتها الأساسيين في غزة استمرت مسيطرة على مجريات الردّ الى حدّ أنها هي من أطلق الرشقة الأخيرة قبل أن يدخل تفاهم وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
4 ـ إطالة أمد المعركة التي تجاوزت الأيام الثلاثة الى الأربعة وفي هذا كانت الصفعة المؤلمة للعدو، الذي ظنّ انه بقتل القادة يقود الحركة الى الانهيار الميداني ويفرض شروطه دونما حاجة الى تفاوض لوقف إطلاق النار، لكنه لمس ان العكس هو ما حصل فاضطر صاغراً لطلب الوساطة والدخول مع الجهاد في تفاوض عبر الوسيط المصري ما نسف قصد العدو وعزّز فكرة تآكل الردع الإسرائيلي فبمجرد أن يأتي ردّ المقاومة ويستمرّ ويعجز العدو عن إسكات مصادر النار ويضطر للتفاوض من أجل التهدئة، أمر من شأنه الإطاحة بحلم ترميم الردع.
5 ـ موافقة العدو على شرط المقاومة بوقف الاغتيالات تحت مسمّى «عدم المسّ بالمنازل والأفراد“ كان كسباً مميّزاً للمقاومة يؤمّن الحماية لأفرادها من كلّ المستويات. ما يجهض فكرة او نية الاجتثاث عندما أطلق العدو عدوانه.
6 ـ احتضان محور المقاومة للمقاومة في غزة وهو ما عملت «إسرائيل» وعلى منعه سعياً لتفكيك المحور واستفراد مكوناته، ولكن هذا المحور أبدى من المواقف ما جعل المقاومة في غزة تشعر بالاحتضان وجعل العدو يخشى تدحرج كرة النار والدخول في مواجهة شاملة يخشاها، وكان لما اتخذته قوى المحور من مواقف وتدابير الأثر الفاعل عند العدو الذي سمع من السيد حسن نصرالله القول «في أيّ وقت تفرض المسؤولية علينا أن نقوم بأيّ خطوة أو خطوات لن نتردّد إنْ شاء الله… نحن الآن نراقب ونتابع الأحداث وعلى الجميع أن يتحمّل المسؤولية عندما تفرض عليه المسؤولية أداء معيناً أو موقفاً معيناً»، مؤكداً في ذلك على تماسك المقاومة ووحدة الساحات التي جهدت «إسرائيل» لتعطيلها.
أما على الاتجاه الإسرائيلي فنسجل ما يلي:
أ ـ الصدمة من ثبات الجهاد واستمرارها ومن وحدة المقاومة في غزة.
ب ـ الفشل في استدراج ردّ فوري انفعالي قابل للاستيعاب والفشل في التعامل مع الصمت الاستراتيجي للمقاومة.
ج ـ الفشل في إسكات مصادر النيران التي أطلقت 1400 صاروخ وقذيفة وصل بعضها الى تل أبيب والقدس واستمرّت مالكة قدرتها التي مكّنتها من ان تكون هي صاحبة الرشقة الأخيرة.
د ـ الفشل في حلّ مشكلة أمن المستوطنات في غلاف غزة ما جعل الإعلام العبري يقول “نحن في ورطة منذ ان خرجنا من قطاع غزة في العام 2005 “ما يعني إقراراً بأنّ العدوان فشل ولم يحقق لـ “إسرائيل” ما وعد به نتنياهو.
هـ ـ فشل القبة الفولاذية في تأمين الحماية من صواريخ المقاومة حيث انّ اعتراضها لم ينجح بأكثر من 32% والاضطرار الى اللجوء الى مقلاع داوود لأول مرة من قبل “إسرائيل”.
و ـ طرح التساؤل ـ الصدمة: “إذا كان وضع الأمن الإسرائيلي بهذه الدرجة من الخطر في مواجهة فصيل واحد يعمل من جبهة واحدة فكيف سيكون حال “إسرائيل”، التي فشلت في ترميم الردع، كيف يكون إذا عملت كلّ الفصائل في الجبهة وتحرّكت كلّ الجبهات ضمن مقولة وحدة الساحات وتعدد الجبهات؟”.
وأخيراً نقول، صحيح أنّ جرائم “إسرائيل” أدّت الى قتل وتدمير واسع النطاق في غزة إلا انّ النجاح في الحروب لا يُقاس بمقدار ما ينزل من الخسائر إلا إذا وصلت الخسارة الى حدّ الاقتياد الى الانهيار الميداني والتوقف عن القتال الأمر الذي لم تحققه “إسرائيل”، ولكن النجاح يُقاس بمقدار ما يحقق من أهداف، وفي تحليل لما آل إليه المشهد نجد انّ “إسرائيل” لم تحقق أهدافها من العدوان واضطرت لوقفه وفق تفاهم كبّلها بالتوقف عن الاغتيالات، وفي هذا نقول إنّ “إسرائيل” فشلت في عدوانها ونجحت المقاومة في صمودها وفي تثبيت معادلات الردع وقواعد الاشتباك التي أضافت عليها ما يناسبها.
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي