رياض سلامة هو الدولة العميقة في لبنان
ناصر قنديل
– يكفي أن تجول على مقدمات نشرات الأخبار وعناوين الأخبار الرئيسية، في القنوات التلفزيونية اللبنانية مساء، خصوصاً القنوات التي تحولت في 17 تشرين الأول 2019 إلى قنوات لإعلان الثورة من أجل دولة تحترم مواطنيها وتحفظ كرامتهم وتستعيد أموالهم، وصارت تمنح الصفات والشهادات الأخلاقية، مَن هم الأوادم ومن هم الزعران، وتشكل مصنعاً للألقاب فهؤلاء هم الثوار وهذه هي منظومة الفساد، حتى تتأكد مما يجب أن تتوقعه تماماً، حيث الوقاحة بلا حدود كانت سمة مشتركة بين الذين تحدّثوا عن المظلوم والمعتدى عليه رياض سلامة، وعن الحاجة لموقف سياديّ لبناني ينتفض بوجه الاعتداء القضائي للمستعمر الفرنسي الذي يستهدف المناضل رياض سلامة، حتى ظننت لوهلة أنهم يتحدثون عن جورج عبدالله وليس عن رياض سلامة، وطبعاً الخبر كان بالتفصيل المملّ لما قاله لهم رياض سلامة منسوباً إلى محاميه ومصادره وأوساطه، بالرغم من أن قضية رياض سلامة مع اللبنانيين واضحة لا لبس فيها، فهو المسؤول عن ثلاثة مهام لا تحدّ سلطته في تحقيقها ضوابط، هو المسؤول عن حماية سعر الصرف وقيمة العملة الوطنية، والثانية حماية ودائع اللبنانيين، والثالثة مراقبة سلامة وضع النظام المصرفي. ولا يحتاج المرء الى عبقرية ليكتشف أن العملة اللبنانية تحتلّ مرتبة واحدة من أسوأ عملات العالم حالياً بفضل عبقرية رياض سلامة وحسن أمانته وإدارته، والودائع قد تبخّرت ولا يمكن استعادتها من أصحابها إلا بمعجزة توضع فيها كل إمكانات الدولة لسنوات لإعادة تكوين رأسمال مصرفي يتيح جدولة إعادتها. والنظام المصرفي تكشف عن فضائح وفساد ومحسوبيات وعدم أمانة، والسؤال ليس عن سبب ملاحقة سلامة في عدة دول منها فرنسا، بل عن سبب عدم ملاحقة سلامة بصورة مبكرة في لبنان، والذهاب لملاحقته عندما تحرّك الخارج بنية حجب الملاحقة الخارجية. والسؤال عن دور الإعلام يشبه السؤال عن دور القضاء، فبدلا من أن يكون الإعلام الذي يدّعي ملاحقة الفساد مجنداً للدفاع عن سلامة، كان يجب أن يحمل قصب السبق في فضح السياسات التي اعتمدها والنتائج الكارثية التي ترتبت عليها. وعندما يكون سلامة حائزاً على حماية القضاء ورعاية الإعلام، فهو يملك ما لا يملكه أحد آخر في لبنان مهما علا شأنه وارتفعت رتبته في داخل الدولة وخارجها.
– نفهم من حجم ما يحظى به سلامة معنى الدولة العميقة في لبنان. وصفة الدولة العميقة في بلدان العالم تكون لأجهزة الأمن والمخابرات والجيش والقضاء، لكن الواضح أنها في لبنان لحاكم مصرف لبنان، حيث في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة أعوام تجرّأ رئيس الحكومة السابق الدكتور حسان دياب، بعد معاناة مريرة امتدّت لشهور، للقول مع انهيار سعر الصرف، «غموض مريب في أداء حاكم مصرف لبنان، والمصرف عاجز أو معطل بقرار أو محرّض على هذا التدهور المريب»، وانتهى دياب بالمطالبة بإقالة سلامة، وكانت خطة دياب للتعافي المالي قد جوبهت برفض من سلامة والمصارف، فكانت النتيجة أن تعرّض دياب لحرب شعواء انطلقت من لجنة المال النيابية حيث حشد نيابي عابر للكتل النيابية والطوائف، وبعد شهور خرج دياب من الحكم وبقي سلامة. ونفهم موقع سلامة كمحور للدولة العميقة، عندما نرى ما حلّ بالقاضية غادة عون، التي لا يمكن لأحد إقناعنا بأن الملاحقة التي تعرّضت لها تعود إلى مخالفات سلوكية في علاقتها مع المراجع القضائية الأعلى منها أو بموجب التحفظ الملزم للقاضي. وقد شهدنا فصولاً من التطاول على هذه المراجع ومن التفلت من أي ضوابط تسلسلية ومن اي موجب التحفظ في قضايا يستدعي التحقيق فيها أعلى مثل هذه الدرجات، من القاضي طارق البيطار، ورغم ذلك بقي يحظى بالحماية ولم يتجرأ أحد على إحالته الى المجلس التأديبي، بينما أحيلت القاضية غادة عون وتم فصلها، لأنها مست بالذات العليا للدولة العميقة التي يمثلها رياض سلامة.
– في قضية الدولة العميقة التي تسببت بأخذ لبنان الى كارثة لا مكان للمواقف الرمادية، والحديث عن بعد سياديّ تجاه الملاحقة القضائية الفرنسية التي تنطلق من قضايا غير التي أثرناها حول مسؤوليات سلامة عن حماية الليرة والودائع ومراقبة الأداء المصرفي، وهي القضايا السياديّة التي للأسف لم تتحرك أي مؤسسة سيادية لبنانية لملاحقة سلامة بموجب الإخلال بها، وما يكشف للأسف أن التحرك القضائي اللبناني جاء لحجب الملاحقة القضائية الخارجية، هو أن القضاء اللبناني يتحرك بالقضايا ذاتها التي يثيرها القضاء الفرنسي وعدد من المحاكم الأوروبية، وهي قضايا يجب أن يخجل من يدافع عن سلامة بشأنها، وهي قضايا اختلاس وتبييض أموال وإنشاء شركات وهمية لتهريب الأموال، وتقاسم العمولات، وهي قضايا كانت الساحات المالية والمساحات القانونية الأجنبية مسرحاً لها، فهي بالتالي اختصاص يلام القضاء المعني بحال عدم تحركه بصددها، ويبدو أن سلامة ومن معه اعتقدوا أنهم محصّنون في هذا الخارج بوجه أي ملاحقة لارتباطهم بالدولة العميقة للنظام المصرفي والسياسي الدولي، لكن مفعول هذه الحصانة ينتهي عندما تقع الكوارث وعلى صاحبها تحمّل تبعاتها وحده، تماماً كما جرى مع حكام سقطوا لأن الأميركي لم يرفّ له جفن بالتخلي عنهم، وصلاحية الحصانة لا تمتدّ لما بعد انتهاء الولاية القانونية. والمؤسف والمؤلم والذي يدعو الى السوداوية هو أن يكون الحق واضحاً الى هذا الحد، وأن لا يجد له من يحمل لواءه كما يستحقّ.