الفشل عنوان «الدرع والسهم»… وعملية «ثأر الأحرار» تُبدّد حلم (دولة إسرائيل)
} د. ميادة ابراهيم رزوق*
في قراءة متأنية لاستراتيجية أمن وبناء مشروع دولة كيان الاحتلال الصهيونيّ، كان حلم ديفيد بن غوريون مؤسس كيان الاحتلال رؤية (إسرائيل الكبرى) التي تمتدّ حدودها حيث يصل حذاء الجندي الإسرائيلي الأخير، أما شيمون بيريز فقد أدرك استحالة تحقق (إسرائيل الكبرى) فبحث عن نظرية وجودية أخرى تتحدث عن (إسرائيل العظمى) ليس بحدودها الجغرافية، بل بحدودها الأمنية التي تصل إلى مياه الخليج وبحر العرب وباب المندب، وحدود اقتصادية تتحقق وفق مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي تحدث عنه في كتاب يحمل العنوان ذاته صدر عام 1992، رسم فيه نظاماً إقليمياً جديداً، وبخطط اقتصادية ضخمة، مع التأكيد على فشل الحرب وأهمية السلام الذي لا يخفي استراتيجية كيان الاحتلال التوسعية، التي تقوم على ضرورة استمرار هيمنته على المنطقة مع اختلاف الوسيلة، مؤكداً أنّ الحروب التي خاضها كيان الاحتلال الصهيوني لم تستطع أن تضمن له الأمن والنصر النهائي، وهذا ما أثبتته حرب الأيام الستة عام 1967، التي تلتها قمة الخرطوم، قمة اللاءات الثلاث: لا للاعتراف، لا للصلح، لا للتفاوض، ليطلق بعدها الرئيس جمال عبد الناصر شعار «ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»… لتتدحرج الأحداث إلى عام 1973 حرب تشرين التحريرية، الذي أنهى عهد السكينة لكيان الاحتلال الصهيوني، وفجّر ثقته المنفوخة بالنفس، وعرّضه إلى خسائر فادحة، فلم تعد الحرب عديمة الغاية فقط، بل إنّ الرغبة في حكم أمة أخرى والسيطرة عليها لم تعد ممكنة، وترسخت هذه القناعة مع الحرب على لبنان عام 1982، لذلك ووفقاً لهذا الكتاب تحدث شيمون بيريز عن نظام إقليمي شرق أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي، للانتقال بالشرق الأوسط من اقتصاد صراع إلى اقتصاد سلام بتطوير بنية تحتية تلائم العصر الجديد من السلام ببناء الطرق وتمديد خطوط السكك الحديدية، وتحديد المسارات الجوية وربط شبكات النقل وتحديث وسائل الاتصالات، وتوفير النفط والماء في كلّ مكان، وإنتاج البضائع والخدمات عن طريق الكمبيوتر، بما يفتح حياة جديدة في الشرق الأوسط، وتأتي صفقة القرن، و(اتفافيات ابراهام)، وما سبقهم مما سُمّي ثورات (الربيع العربي) في صلب هذا المشروع، وتنفيذا لتفاصيله.
وفي ذات الاستراتيجية واستكمالاً لمشروع بيريز تحدث بنيامين نتنياهو في كتابه «مكان تحت الشمس» الذي صدر عام 1993 عن كيفية الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، مع الانتقاد الشديد لمبدأ التفاوض مع الفلسطينيين والعرب عموماً الذي كان قائماً على مبدأ «الأرض مقابل السلام» ليستبدله بمبدأ “السلام مقابل السلام” الذي اعتمده ضمن رؤيته الشاملة، وتُرجم فعلياً بعدم قابلية التفاوض على الجولان السوري المحتلّ باعتباره يشكل العمق الاستراتيجي لكيان الاحتلال الصهيوني، ووضع كامل مدينة القدس تحت سيادته، وإعلان نيته ضمّ غور الأردن والضفة الغربية، إضافة إلى ضمان استمرار التفوّق العسكري والتكنولوجي لكيان الاحتلال الصهيوني في المنطقة، واستكمالاً للواقع المستقبلي الذي يسمح لكيان الاحتلال بأن يأخذ مكاناً بارزاً تحت شمس المنطقة، أكدّ في أكثر من مكان على أهمية التطبيع مع الدول العربية، وتحديداً الدول النفطية، وعزز رؤيته في كتاب آخر بعنوان “الايديولوجيا والسياسات” عام 1996، فكان هذا الكتاب بمثابة برنامج سياسي لحزب الليكود أجمع عليه كيان العدو الصهيونيّ، والصهيونية العالمية، تضمن وجوب استسلام القيادات الفلسطينية والعربية للمخططات الصهيونية، والموافقة على ضمّ القدس والأغوار وتوطين اللاجئين خارج فلسطين، وإقامة الحكم الذاتي من خلال الوطن البديل في الأردن، وتصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع، وشطب حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، والاعتراف بيهودية الدولة، وترحيل فلسطينيّي الداخل إلى دولتهم الفلسطينية في الأردن، وإقامة (إسرائيل العظمى) الاقتصادية من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد والتحالف الأمني مع الأنظمة الرجعية العربية وخاصة في السعودية والأردن والإمارات لمواجهة قوى محور المقاومة والحكومات الوطنية في المنطقة العربية والإسلامية وبقية بلدان العالم، وفي تفاصيل الكتاب نقرأ وقائع ترمي إلى تخليد وجود الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي والبلدان الإسلامية كأكبر كانتون يهودي معاد لشعوب المنطقة، وبضرورة إنهاء الصراع العربي الصهيوني، ولكن ليس بالحلّ العادل للقضية الفلسطينية، بل بتصفيتها.
كما نجح قبل ذلك زعيم الليكود ومجرم الحرب مناحيم بيغن وبعد طرح الحكم الذاتي الفلسطيني عام 1977، بتكريس كيان الاحتلال، وتكريس الاعتراف الفلسطيني خاصةً والعربي عامةً به كدولة (دولة إسرائيل) بتوقيع اتفاقيات أوسلو (1&2) ووادي عربة مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني في الأعوام (1993 و1995 و 1994)، فكانت بداية تنازلات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن الوطن والقضية وحق عودة اللاجئين إلى ديارهم.
استمرت ذات الاستراتيجية والمخططات الصهيونية في حقبة حزب العمل الصهيوني برئاسة الحكومة، بالاحتلال والاستعمار الاستيطاني، والتأكيد أنّ القدس بشطريها المحتلين (عاصمة إسرائيل) الموحدة والأبدية، وسيطرته على الأرض والمياه والمعابر والحدود والأجواء وإقامة اكبر معتقل نازي فلسطيني في تاريخ البشرية، ومنح السلطة الفلسطينية صلاحية الحكم الذاتي الإداري المحدود، ومهمات قمع النضال الفلسطيني، ومحاربة المقاومة وترسيخ التعاون الأمني بين حكومة الاحتلال وأجهزة السلطة للحفاظ على أمن كيان الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه، مع التركيز على مصادرة الأراضي الفلسطينية وتهويد فلسطين وإلغاء وجهها الحضاري العربي والإسلامي واستبداله بالهوية اليهودية والشرق أوسطية.
واستمرّ بنيامين نتنياهو من خلال رئاسته لحكومات كيان الاحتلال الخمس الماضية بتحقيق جزء غير قليل من رؤاه التي شرحها في كتابيه، ابتداء من تطبيق مبدأ “السلام مقابل السلام” من خلال (اتفاقيات إبراهام) ونجاحه باختراق منظومة دول الخليج، وتوقيع اتفاقيات التطبيع مع أنظمتها السياسية، ونجاحه كذلك بإعلان دولته باعتبارها دولة قومية يهودية، وتكثيف الاستيطان، وانتزاع اعتراف الولايات المتحدة الأميركية باعتبار القدس عاصمة موحدة لـ (إسرائيل)، والتعامل مع الجولان المحتل باعتباره جزءاً لا ينفصل عن الكيان الصهيونيّ، فاستطاع أن يحطم اتفاقيتي أوسلو بتطويق القدس بالمستوطنات وتكثيف الاستيطان بشكل جنوني، حتى لم يعد بالإمكان الحديث عن تقسيم القدس أو حلّ الدولتين، بل حاول بكلّ قوة السيطرة على سلوان وتفريغها من سكانها، والعمل على تفريغ عشرات ألوف الفلسطينيين من القدس الشرقية بالضغوط والتضييق وهدم البيوت ومصادرة الأراضي، ومنع أيّ فلسطيني جديد من دخولها.
وبحكومته السادسة اليمنية المتطرفة والأكثر تشدّداً في تاريخ كيان الاحتلال الصهيوني (اتفاق نتنياهو ـ بن غفير) أمعن نتنياهو بتنفيذ رؤاه في كتابيه “مكان تحت الشمس” و”الايدولوجيا والسياسات” بخطى متسارعة، فسلم رئيس حزب العظمة اليهودية ايتمار بن غفير حقيبة الأمن القومي والتي تتضمّن حقيبة الأمن الداخلي سابقاً مع صلاحيات أمنية واسعة، إضافة إلى مواقع اقتصادية وأمنية أخرى حساسة تشمل ملف الاستيطان في الضفة الغربية، وصلاحيات شبه مطلقة على الأجهزة الأمنية ذات الاحتكاك بالفلسطينيين مثل قوات (حرس الحدود) التابعة لشرطة الاحتلال، لتطبيق خططه، ومنها تغيير أوامر إطلاق النار على الفلسطينيين، لتغيير الوقائع في الضفة الغربية بالترخيص لبناء مستوطنات جديدة، ومنح الترخيص للمستوطنات القائمة، وترحيل جزء من الفلسطينيين، وتطبيق عقوبة الإعدام على من يسمّيهم (المخرّبين)، وبالتالي واجه الفلسطينيون تحديات وجودية حقيقية كبيرة في ظلّ الواقع السياسي الجديد في كيان الاحتلال الصهيوني.
شكل هذا الواقع فرصة لتوحيد الساحات المقاومة ضدّ الاحتلال، وإلغاء مسوغات الجدل حول موضوع التسوية وحلّ الدولتين، وهذا ما أكدته مجزرة جنين في 26/1/2023 التي كانت بمثابة عملية استعراض لقوة كيان الاحتلال، واستخدام القوة المفرطة والممارسة الإجرامية للقوة، فكان الردّ الفلسطيني السريع والقوي بتسارع عمليات المقاومة الجهادية والاستشهادية في غير ساحة، ونذكر منها عمليتي القدس في مستوطنة النبي يعقوب التي نفذها الشهيد خيري علقم ابن الـ21 ربيعاً، وفي حي سلوان التي نفذها الشهيد محمد عليوات ابن الـ 13 ربيعاً، واللتين حملتا أكبر صفعة لحكومة كيان الاحتلال الجديدة، وحسب تصريحات عدد من المحللين السياسيين على القنوات العبرية الصهيونية أنهما الأصعب منذ 15 عاماً، وبدل ان تكون المواجهة التي توقعها كيان الاحتلال قادمة من قطاع غزة أو من مخيم جنين، فإنّها جاءت من القدس التي ينظر إليها أنها خاصرة رخوة أمنياً للاحتلال في ظلّ سهولة دخول وتنقل المواطنين الفلسطينيين هناك.
وبالتالي نتج عن تنامي البطش والإجرام الصهيوني، جيل فلسطيني متأهّب متوثب قادر على اجتراح مسار جديد للمقاومة، كرّس معادلة جديدة في الضفة الغربية تنطلق من القدس المحتلة، تكشف مقدار القوة الفلسطينية، وفشل مجمل السياسات الاحتلالية في إعادة بناء الفلسطيني الجديد غير المتفاعل مع قضاياه الوطنية، فمثلت عمليات القدس البطولية درساً قاسياً لكيان الاحتلال الصهيوني بمقدار ما هي درس للفلسطيني في القدرة على الردّ، وبأنَّ الفلسطيني لا يُكسر، وكلّ التجارب تقول إنّ مقاوماً فلسطينياً واحداً وبأدوات بدائية قادر على الردّ، بالإضافة إلى أنّ فصائل المقاومة في غزة يدها على الزناد وفق تصريح قادة الفصائل، لن تسمح بتفكيك وتفريق المقاومة والاستفراد بالضفة الغربية.
لتعيش بعد ذلك حكومة نتنياهو أزمات حقيقية شديدة التعقيد داخل مجتمع الكيان الصهيونيّ بما فيه من انقسامات وشروخ وفساد في مؤسسة الجيش، بالإضافة إلى تنامي المعارضة الداخلية وتصاعد وتيرة الاحتجاجات ضدّ الإصلاحات القضائية، وانضمام القطاع الاقتصادي إليها، والتهديد بخروج رجال الأعمال والشركات ومغادرة فلسطين المحتلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، مع استمرار التغوّل والوحشية والسادية والعنصرية وأعمال العنف وانتهاك المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، واقتراف المجازر بحقّ الشعب الفلسطيني، التي ترافقت مع مجموعة من الأحداث من عملية مجدّو في شمال فلسطين المحتلة منبئة بفشل استخباري وأمني ذريع لكيان الاحتلال، إلى إطلاق الصواريخ من أكثر من جبهة من جنوب لبنان وغزة وسورية على مستوطنات وبلدات في شمال فلسطين المحتلة، بالإضافة إلى الجولان السوري المحتلّ رداً على انتهاك المسجد الأقصى، بما يعبّر عن تآكل قدرة الردع (الاسرائيلية)، إلى المصالحة السعودية ـ الإيرانية برعاية صينية، والسعودية ـ السورية، وتراجع نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في أكثر من جغرافية، وخاصة في المنطقة، بما قوّض مفاعيل (اتفافيات إبراهام)، وبدّد أماني التطبيع مع المملكة العربية السعودية، ما دفع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لمحاولة الخروج من مآزقه الداخلية وترميم جزء من قدرة الردع بالإقدام على عملية الدرع والسهم الفاشلة باغتيال عدد من قادة المقاومة وعوائلهم في سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، فكان الردّ المقاوم بحنكة وحكمة، بالتريّث وتأخر الردّ لمدة 36 ساعة بحرب نفسية أربكت كيان الاحتلال الصهيوني، وأفرغت المستوطنات في غلاف قطاع غزة، ليبدأ بعدها الردّ العسكري بمعركة «ثأر الأحرار»، بإدارة المعركة بتكتيك وطريقة مغايرة لكلّ الجولات السابقة، بإطلاق قذائف الهاون والصواريخ المتطورة التي وصلت إلى القدس وتل أبيب، فتحدّت القبة الحديدية ومقلاع داوود، الذي تمّ تصميمه لحماية منصات النفط والغاز، بما يُنبئ بفشل أسلحة كيان الاحتلال ومنظومته الدفاعية بحماية تل أبيب ومستوطناته، ومنشآته الاقتصادية والحيوية، وتغيير المعادلات، ليكتمل المشهد مع تصريحات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وقائد قوة القدس الإيرانية العميد اسماعيل قآاني، بما يؤكد التواصل والتنسيق بين غرفة العمليات المشتركة للفصائل الفلسطينية في غزة وغرفة محور المقاومة، ليسقط الدرع الصهيوني بعد خمسة أيام من المواجهة، ويتبيّن أنّ سهمهم سهم طائش، وتتعمّق الشروخ والانقسامات ببنية مجتمعه الهشة، وتدحض كلّ روايات نتنياهو الإعلامية الكاذبة بتدمير القدرات العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، الذي قاد معركة ثأر الأحرار بالتنسيق مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غرفة العمليات المشتركة في غزة مع تأييد شعبي بحكمة واقتدار على تثبيت وتعزيز معادلات القوة والردع للمقاومة الفلسطينيّة، وتكريس صورة نصر قوية، تبلور وتؤكد وحدة الساحات والجبهات، مع مزيد من الخيبة لكيان الاحتلال الصهيوني المهزوم، وعمق الشرخ بين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالنت بتقاذف إعلان الهزيمة في مواجهة سرايا القدس في الذكرى الـ 75 للنكبة الفلسطينية، وبأنّ كيانهم هش ومؤقت وعليهم إعادة التفكير بعقدة الثمانين، في الوقت الذي تنصرف فيه المقاومة الفلسطينية الى إعادة مراكمة القوة وقدراتها العسكرية، استعداداً لأيّ جولة قادمة مع كيان الاحتلال الصهيوني.
وكما قال بيان غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة: ”انتهت جولة من القتال والمقاومة والصمود، ولكن مقاومتنا بدأت من جديد أكثر قوة وعنفواناً، والرايات لم ولن تنكس، فقد كتبت المقاومة ملحمة جديدة من الثبات والتضحية والبطولة“.
نختم ونقول، ولّى زمن الهزائم إلى غير رجعة، فهُزم كيان الاحتلال الصهيوني وانتصرت الإرادة الفلسطينية والمقاومة كرقم صعب، لتطرح وجود كيان الاحتلال الصهيوني وحلم (دولته) على طاولة البحث في مواجهة واسعة آتية متعدّدة الساحات والجبهات وفق توقيت محور المقاومة على ساعة القدس…
*باحثة وأكاديمية سورية