قارئ نهم ومسرحي استثنائي وقيمة إبداعية إنسانية جورج خباز لـ«البناء»: لدينا مسرحيون لا مسرح ونعاني من أزمة كتّاب
} حاورته ـ عبير حمدان
يشبه الوطن كما نحلم به بكل إيجابياته وجماله ورقيّه، فمن الصعب أن تختصر السطور التي يسمّونها مقدمة لحوار قيمة الفنان جورج خباز الإبداعية والإنسانية، وهو القارئ النهم والمسرحي الاستثنائي والممثل الواقعي والناقد الذاتي بالدرجة الاولى والمواطن المؤمن بفعل الانتماء إلى بلد مثقل بالويلات منذ بداية تكوينه، بلد لكل أبنائه مهما تنوعت آراؤهم وتضاربت مقارباتهم للقضايا، بحيث يرى أن تنوعهم ميزة فيها الكثير من الجمالية التي تستحق الحفاظ عليها وصونها.
يدرك خباز العدو من الصديق، لكنه لا يخوض في ضجيج السياسة وله كل الحق في ذلك لكونه يقدم في نصوصه المسرحية نبض الناس كل الناس دون استثناء. وهذا الفن سياسة حياتية ممسرحة كافية لتكريس إبداعه وتعميم رؤيته الهادفة إلى التصويب على معاناتهم اليومية سواء بإطار درامي أو كوميدي.
يقول خباز إنه لدينا مسرحيون وليس مسرحاً، ويؤكد على تقدم الدراما اللبنانية في السنوات الأخيرة ولا ينفي أننا نعاني من أزمة لجهة عدم وجود كتّاب.
أعمالي لكل الناس والفن هو المساحة
التي توحّد اللبنانيين
ونبدأ الحوار مع خباز من باب المسرح منذ الخطوة الأولى وكيف يقيم المشهد المسرحي كرائد في هذا المجال وكمتلقٍّ في الوقت نفسه، فيقول: «مما لا شك فيه نحن وعينا على فوضى عارمة في لبنان من كافة النواحي بظل اللادولة والتخبطات السياسية والطائفية. وهذا من الطبيعي أن ينعكس على المسرح. من هنا يمكنني القول إننا نفتقد الحركة المسرحية بشكل عام، بمعنى أنه لدينا مسرحيون ولكن ليس لدينا مسرح، وبالتالي هناك تجارب خاصة آتية من جيوب خاصة والقطاع العام غائب عن المشهد، وكان الله في عونه. لذلك نرى مجموعة تجارب البعض منها جيد جداً والبعض متواضع والبعض إذا أردت يمكن وصفه أنه دون المستوى. وأنا هنا لست ضد العمل المسرحي غير المكتمل حيث إن التجارب الناقصة تشكل تراكماً يوصلنا إلى العمل الكامل».
ويضيف في الإطار نفسه: «بشكل عام إذا اردت تقييم الحركة المسرحية يمكنني اختصار واقعها بالقول إنه لدينا مسرحيون وليس لدينا مسرح، رغم كل الثورة الحاصلة والصورة التفاؤلية إلى حد ما طالما يصرّ هؤلاء على العمل وتقديم ما لديهم بانتظار أن نصل إلى مرحلة يكون فيها القطاع العام داعماً للحركة المسرحية بشكل فعلي وجاد، وبالتالي حينها نقول إنه أصبح لدينا مسرحاً».
ولا ينفي خباز حجم الأزمة التي نعاني منها على كافة المستويات، وعن ذلك يقول: «نحن بالدرجة الاولى نعاني من أزمة ثقافية واقتصادية، وبالتالي هي أزمة لجهة الشعور بالاستقرار، وبالنتيجة حين نعيش في خضم الأزمات المتتالية اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً لا تكون الأولوية عند الناس اكتساب الثقافة أو تحصيلها إنما كيفية تأمين لقمة عيشهم وطبابتهم وتعليم أولادهم».
ويرى خباز أن التنوّع في تقديم المادة الدرامية أمر إيجابي فالفن هو المساحة الوحيدة التي يتوحد عليها اللبنانيون بمنأى عن السياسة ونقمتها.
ونسأل خباز عن مدى استمرار غيابه مسرحياً في ظل انتظار الناس أن يقدم لهم عملاً جديداً، فيقول: «الأزمة الاقتصادية هي من أهم الأسباب التي تحول بيني وبين تقديم عمل جديد. فمن المستحيل اليوم أن نطلب من المواطن 20 دولاراً ثمن البطاقة، وكأننا نقول للناس لا تأتوا إلى المسرح، في المقابل لا يمكن أن تكون البطاقة اقل من ذلك، حيث أن من يعمل معي يجب أن أعطيه حقه المادي، لذلك يجب التروي حتى تستقر الأمور وتصل بنا إلى مرحلة ثابتة بحيث يتمكن الجميع من الحضور إلى المسرح، فأنا أقدّم أعمالي المسرحية لكل الناس وليس للطبقة الميسورة وحسب».
وحول طبيعة ما قد يتناوله العمل الموعود، يقول: «لدينا الكثير لنتكلم عنه، مع العلم أننا الآن نمر في أزمة تعبير أمام كُبِر ما يحصل معنا، ولكن إن لم نتحدث عن ما مررنا به فكأننا نقيم على كوكب آخر، لكن هناك أمور وقصص إنسانيّة تجب الإضاءة عليها خاصة أننا نمتلك قواسم مشتركة لا تفرّق بيننا كمواطنين، وبرأيي أن الخلل السياسي أساسه خلل إنساني واجتماعي ولن نتمكن من معالجته إن لم نعمد إلى معالجة أنفسنا إنسانياً».
العلاج يبدأ بالتربية التفاعلية
لا التلقينية
أما عن كيفية العلاج، فيقول: «هناك عدة طرق، تبدأ بسلوكنا اليومي والعودة إلى جوهر الإيمان بعيداً عن القشور، الإيمان بالذات وبالله الذي يمثل الخير، وبالتربية في البيوت وبفرض المواد الفنية في المناهج التربوية بحيث توازي باقي المواد العلمية، بمعنى أنه علينا الخروج من دائرة التلقين في مناهجنا التربوية وتحويلها إلى مادة تفاعلية بعيداً عن الحشو والحفظ، وهناك مقولة تقول «علّموا الأولاد رسم العصافير كي لا يقتلوها حين يكبرون»، فكيف إذا علمناهم رسم أنفسهم ليحبوها ويحبوا من يحيط بهم».
ويرى خباز أن المشكلة في فقدان القيم والإنسانية وروح الجماعة والتعاطي بأنانية، حيث أن اللبناني من أنجح الأفراد وأفشل الجماعات وفق تعبيره، لافتاً إلى أنه «كان لدينا حضارات مهمة ولكن في المقابل أتت احتلالات متعاقبة منها 400 سنة من أخطر الاحتلالات وأكثرها ضرراً وتدميراً».
وحول استحضار القصص العالمية على خشبة المسرح يؤكد خباز: «نحن نعاني من أزمة غياب الكتّاب، حين نكون شعوباً لا تقرأ فكيف يمكن لنا أن نكتب، يجب أن نقرأ ولأني من الناس وموجوع مثلهم أعمد إلى التعبير عن وجعهم على خشبة المسرح، ولعل ثقة الناس بي مرده إني أتكلم بلسانهم».
وبالانتقال إلى الدراما يرى خباز أن الدراما اللبنانية متقدّمة في المرحلة الأخيرة، فيقول: «في السنوات العشر الأخيرة الدراما اللبنانية تقدمت بشكل ملحوظ جراء تنوّعها وتمكنت من المنافسة والممثل اللبناني حاضر وكذلك المخرج اللبناني، وليس مطلوباً من الدراما أن تحكي الواقع فقط فقد تكون خيالية ومثالية في مكان، وتقدّم قصة حب وحسب، وتقدّم بطولات، وكذلك تقدم الواقع كما حصل في مسلسل النار بالنار».
ونسأله عن مدى واقعية «النار بالنار»، فيجيب: «النار بالنار عمل واقعي بامتياز وفعلياً نحن نعيش هذه الإشكالية والخليط الاجتماعي، وفي النهاية كل عمل الأخطاء الإخراجية واردة، أما في ما يتصل بتصريحات الكاتب بعد كل نقد طال مشاهد في العمل، فذلك مرده إلى خلاف بينه وبين المخرج وهو أمر يخصهما».
الثقافة السياحية أساسية
قبل أماكن السهر والمطاعم
وننتقل إلى السينما حيث يعتبر خباز أنها ليست بخير على مستوى العالم، وليس فقط في لبنان، فيقول: «السينما في كل العالم ليست بخير، فنحن اليوم نعيش نقلة نوعية لجهة صناعة السينما، في ظل ما يُسمى «بلاك فورت»، حيث أنت تدخلين إلى هذا العالم من خلال منصات مثل «نتفليكس» و»شاهد» من هنا يطرأ التغيير على مفهوم السينما من فكرة الذهاب الى الصالات أو انتظار نزول فيلم جديد لمشاهدته، فقد أصبحت السينما في بيتك، ولا يمكننا الحكم إذا كان هذا الأمر إيجابياً أو سلبياً في الوقت الراهن على الأقل، علينا أن ننتظر لنرى».
ويضيف في إطار متصل: «الإنتاجات السينمائية العربية خجولة نسبياً، ولكن يمكننا القول إن هناك تجارب جيدة خاصة على صعيد لبنان فمجرد وصول فيلمين لبنانيين إلى الأوسكار لسنتين على التوالي، فهذا إنجاز لم يحققه أي بلد عربي، ولكن تبقى هذه ضمن إطار التجارب الخاصة والأمر يتطلّب جهداً عاماً من قبل الدولة وتنسيقاً بين وزارة الثقافة ووزارة التربية ووزارة السياحة ليكون الفن على جدول اهتمامهم الأولي. وأركز هنا على دور وزارة السياحة فأنا حين أقصد لندن على سبيل المثال أول شيء أجده في المطار لائحة بعناوين المسارح وصالات السينما. من هنا يجب التركيز على الثقافة السياحية قبل الدعوة الى أماكن السهر والترفيه والتراث والمطاعم، وكذلك يجب أن تعمل وزارة التربية على تثقيف الأجيال منذ الصغر إما وزارة الثقافة فيجب أن تدعم القطاع الفني من فنانين ومسرحيين وخاصة جيل الشباب، وبالطبع وجود جهات منتجة دون فرض شروط مسبقة».
كل المجالات تضمّ الطارئين
ويجب تفعيل دور النقابات
وحول وجود الطارئين على مجال الفن، يقول: «في كافة المجالات هناك طارئون، وذلك في ظل غياب التنظيم ووجود النقابات، هناك شيء يُسمى اختصاص وهناك شيء إسمه خبرة؛ فإما تكونين قد درست وتدرجت وحصلت على شهادة تثبت ذلك، وإما يكون لديك أعمال عديدة تؤكد خبرتك وبالتالي تحصلين على شهادة موثقة بذلك. إذا الأمر ليس تحديد موهبة، الدراسة ليست شرطاً أساسياً. هناك كبار لم يدرسوا، لكنهم أبدعوا وشكلوا علامة فارقة وتركوا بصمة في مجالاتهم».
ويؤكد خباز أنه لا يشبه الفنان زياد الرحباني «أنا نقطة في بحر زياد الرحباني وهو له قضاياه ورؤيته، وأنا لست مثله».
ويقارن بين الأمس واليوم بالقول: «في زمن الرحابنة وكل الكبار كانت البيئة حاضنة لهم، كان كيف يتابع المواطن الاعمال الفنية والحفلات الموسيقية، أما اليوم فإن هم المواطن مختلف كلياً ونحن نجهد لتنفيذ أعمالنا والناس ليست لديه المقدرة على المواكبة بسبب همومها المعيشية».
من جهة ثانية يرى خباز أن الدراما السورية متميزة بسبب وجود معهد قوي هناك، فيقول: «مصنع الممثلين عندهم جيّد وهو المعهد العالي للتمثيل، وهذا المعهد يُخرّج ممثلين ومخرجين وكتًاباً وتقنيين، وبالتالي هم قادرون على تقديم الدراما المتميزة، لربما تأثروا خلال سنوات الحرب، وهذا أمر طبيعي، وهم مهنيون وهناك استفادة متبادلة بيننا وبينهم».
ويرى خباز أن الزمن كفيل بغربلة كل المجالات حتى حين يتصل الأمر بالقطاع الإعلامي: «علاقتي بالإعلام ممتازة ولكني أرفض تلقي أي خبر كاذب، وفي ما يتصل بالنقد أفرح به حين يكون جيداً وحتى حين يهاجمني البعض بعناوين خلفيتها شخصية لا أبالي بها. وفي النهاية النص المنطقي والعلمي يصل لمن يعرف القراءة وما عدا ذلك تفاصيل».
ويختم: «حالياً أنا أكتب للتلفزيون وأعمل على كتابة عمل مسرحي قد أعود به إلى الخشبة في أيلول المقبل».